للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

لا تلائمها. ولم يكن الإنسان ليحس نفسه شيئًا مهينًا لو لم يكن يعلم أنه موجود لغايات أسمى من التي تعرض له في هذه الحياة. وإذن فلن يصدق مذهب في تفسير الإنسان وتدبيره إلا أن يكون محتويًا على ضدين وعلى العلاقة بينهما. وكل مذهب يقتصر على وجهة واحدة، وكل مذهب يدرك تضادّ طبيعتنا ويدع الضدين متجاورين، ليس مذهب حق وحياة. لقد عرف أبكتاتوس أن الإنسان عظيم بالفكر، وعرف واجبات الإنسان إذ طلب إليه أن يعتبر الله خيره الأعظم، وأن يخضع للعناية الإلهية دون تذمر؛ ولكنه والرواقيين جميعًا أضافوا إليه القدرة على توجيه أفكاره بنفسه والحصول بذلك على جميع الفضائل، فجهلوا ضعف الإنسان وأعلنوا مبادئ كبرياء شيطاني، وجاء مذهبهم عقيمًا؛ لأنهم يخاطبون إنسانًا موهومًا يفترضون له السيطرة التامة على نفسه. وراح مونتني يفحص عما يستطيعه العقل دون نور الإيمان، فحكم على العقل بالشك، وجهل عظمة الإنسان، وبدا كأنه يحله من كل واجب ١. الأول عرف عظمة الإنسان وجهل عجزه، والثاني عرف ضعف الإنسان وجهل شعوره بالواجب.

ووليس يعطينا الجمع بينهما مذهبًا كاملًا، مما قد يلوح. إن حكماء هذا العالم يضعون الأضداد في موضوع واحد بعينه هو الطبيعة الإنسانية، فيراها البعض عظيمة، ويراها البعض الآخر حقيرة، بينما يعلمنا الدين أن الحقارة راجعة إلى الطبيعة، وأن الفضيلة راجعة إلى النعمة الإلهية. لقد فات أبكتاتوس ومونتني جميعًا أن حال الإنسان الراهن يختلف عن حاله وقت الخلق، ولم يعتبرا عواقب سقطة آدم وضرورة المخلص لإصلاح الحال. وهكذا يحطم أحدهما الآخر ليهيئا محلا للإنجيل الذي يوفق بين الأضداد بفن إلهي لم يكن ليصدر إلا عن الله، فيعلن إلينا أن عظمة الإنسان آتية من أصله الإلهي، من أنه صنع الله، وأن شقاءه آتٍ من خطيئة آدم التي أفسدت الطبيعة. هاتان الحالتان المتعاقبتان، حالة الخلق وحالة الخطيئة، تفسران الوجهتين المتلازمتين اللتين كشف عنهما التحليل.

ز- وليس يمكن أن يظل الكافر عديم المبالاة بمصيره؛ "إن خلود النفس


١ إن بسكال يتجنى على مونتني ويزعم أنه انتهى إلى حال هي شر من اليأس، حال عدم المبالاة بالنجاة، حال خلو من الخوف ومن الندم "خاطرة ٦٣ ". والحقيقة أن مونتني يوجهنا إلى الإيمان مثل بسكال "انظر ما قلناه: ١٧ هـ".

<<  <   >  >>