للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

بوجود جسمنا والأجسام المحيطة بنا؛ ولكننا لا ندركها في ذاتها، ولا نكون عنها فكرة أو معنى. "إن ما لديّ من شعور باطن ينبئني بأني موجود، وأني أفكر وأريد وأحس وآلم, ولكنه لا ينبئني بما أنا وبطبيعة فكري وإرادتي وعواطفي، ولا بما بين هذه الأشياء من علاقات". وهذا يعني أن الله حرمنا رؤية نفسنا فيه، وأن علم الأجسام أبين من علم النفس، خلافًا لما يقول ديكارت، أو أن علم النفس علم ناقص لأنه يستعصي على المنهج الرياضي، ولا يتناول إلا بالمنهج التجريبي ١. وفي هذا كان مالبرانش أكثر توفيقًا من ديكارت، فإن الحق أننا لا ندرك ذات النفس، وأننا لا نعلم ماهيتها إلا بالاستدلال. ولكن مالبرانش يتعثر في مسألة اتصال النفس والجسم؛ فإنه يقرر أنهما متباينان وأن أفعالهما متباينة كذلك، فلا يؤثر الجسم في النفس، ولا تؤثر النفس في الجسم، وأن "كل اتحادهما يقوم في تقابل طبيعي بين أفكار النفس وحركات الجسم" ٢. مثلما نفكر في نفس الأشياء كلما قبل الدماغ نفس التأثيرات؛ ثم هو لا يخبرنا كيف يحدث هذا التقابل الطبيعي, هل يحدث تبعًا للوسائل البسيطة أو القوانين الكلية؟ إذن نقع في الآلية والجبرية؛ أو هل يحدث تبعًا لإرادات جزئية من لدن الله؟ إذن نخرج على بساطة الوسائل, ونخالف مقتضى الحكمة الإلهية.

د- ويتعثر مالبرانش كذلك في مسألة الإرادة. فهو يعرفها بأنها محبة الخير على العموم، ويلاحظ أننا لا نحب شيئًا إلا أن يكون خيرًا حقًّا أو يبدو كذلك؛ ويقول: إن هذه المحبة يطبعها الله فينا، وإنها مبدأ محبة الأشياء بالخصوص، فالإرادة هي الأثر المتصل الصادر عن صانع الطبيعة والموجه للنفس نحو الخير على العموم. وإذا ما جاء إلى النظر في حرية الإرادة، أثبت الحرية بشهادة الوجدان، وبما قال من أن موضوع الإرادة الخير على العموم، إذ متى كان الحال هكذا كان في استطاعة الإنسان أن يمتنع من محبة أي خير جزئي لقصور الخيرات الجزئية عن استنفاد كفايته للمحبة, وإرضاء إرادته كل الرضا. ثم يضطر إلى القول بأن الاختيار فعل صوري فحسب أو فعل باطن عاطل من الفاعلية،


١ "أحاديث فيما بعد الطبيعة" الحديث الثالث؛ وكتاب الأخلاق، القسم الأول ف ٥ - ١٦ - ١٧.
٢ "البحث عن الحقيقة" الكتاب الثاني، القسم الأول, ف ٥.

<<  <   >  >>