للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

رابعا: وعلى هذا أيضا أجمعت كلمة علماء الإسلام

بعد عصر الصحابة- من جميع الطوائف، فإن القرآن عندهم يفيد معرفة أدلة التوحيد من غير ظن ولا تقليد، ومنه تعلم المتكلمون "علماء الكلام" النظر والأدلة، ولكنهم غالوا في النظر، ولم يقتصروا على القدر النافع المذكور في كتاب الله تعالى.

وجميع ما هو صحيح من الأدلة عند المتكلمين يمكن رده إلى القرآن الكريم, بل هو في القرآن الكريم؛ فجميع أدلتهم -مثلا- في وحدانية الله تعالى لا تخرج عن قوله سبحانه: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: ٢٢] .

وهكذا في سائر أبواب الاعتقاد ومسائله. ولقد ألمحنا إلى شيء من هذا عند الحديث عن منهج الصحابة في التلقي.

ولئن كانت أدلة المتكلمين والفلاسفة مقصورة الفائدة على طائفة من الناس الذين يتأثرون بالدليل العقلي المجرد الذي قد لا يدل دلالة قطعية على مدلوله إلا بتأمل كبير وتعمق وتكلف؛ فإن أدلة الكتاب والسنة أدلة قاطعة جلية، تسبق إلى الأفهام ببادي الرأي وأول النظر، ويشترك كافة الخلق في إدراكها وفهمها. وهي بذلك مثل الغذاء ينتفع به كل إنسان، بل كالماء الذي ينتفع به الصبي، والرضيع، والرجل القوي. ولهذا كانت أدلة القرآن سائغة جلية.

ألا ترى أن من قدر على ابتداء الخلق فهو على الإعادة أقدر؟ "وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده, وهو أهون عليه" وأن التدبير لا ينتظم في دار واحدة بمدبرين، فكيف ينتظم جميع العالم؟ وأن من خلق علم ما خلق، كما قال سبحانه:

{أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: ١٤] .

فهذه أدلة تجري مجرى الماء الذي جعل الله منه كل شيء حي، ينتفع به الجميع بيسر وسهولة، فتؤدي إلى معرفة وقناعة، ثم إلى التزام وطاعة١.

خامسا: فإذا تجاوزنا الدليل الشرعي والإجماع، وجدنا التجربة والواقع العملي شاهدين عدلين على صحة المنهج الذي سلف، في العودة إلى القرآن والسنة لنستمد منهما أصول العقيدة؛ إذ لا أحد من العلماء لجأ إلى القرآن الكريم في مسألة إلا وجد لها فيه أصلا٢؛ ولذلك كان فيه الكفاية والغَنَاء.

يقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله:

"إننا نعتقد -بالدراسة الطويلة- أن هذا القرآن فيه غناء كامل في بيان الحقائق التي يقوم عليها التصور الإسلامي، فلا يحتاج إلى إضافة من خارجه في هذا البيان "باعتبار أن السنة إنما هي تفصيل وبيان لما في القرآن" ونحب أن يتعود القارئ أن يلجأ إلى القرآن ليجد فيه تبيانا لكل شيء. ومن ثم فإن النصوص القرآنية هنا "في بحث موضوعات التصور الإسلامي" هي الموضوع ذاته، وليست عنصرا مساعدا


١ "ترجيح أساليب القرآن" لابن الوزير، ص"١٥، ١٦، ٢٢".
٢ "الموافقات": ٣/ ٣٧١.

<<  <   >  >>