والعتاق واللعان والسَّلَم والإجارة ... فذلك لا يحصل به إنذار ولا تخويف. بل إن التجرد لهذه التفريعات والاشتغال بها على الدوام -دون ملحظ آخر- يقسِّي القلب وينزع الخشية منه، كما نشاهد من المتجردين له.
وقال تعالى:{لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا}[الأعراف: ١٧٩] وأراد به معاني الإيمان دون الفتاوى. ولعمري, إن الفقه والفهم في اللغة اسمان بمعنى واحد، وإنما يتكلم في عادة الاستعمال به قديما وحديثا. قال تعالى:{لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ}[الحشر: ١٣] .
فأحال قلة خوفهم من الله واستعظامهم سطوة الخلق على قلة الفقه. وليس ذلك نتيجة عدم الحفظ لتفريعات الفتاوى، وإنما هو نتيجة عدم ما ذكرناه من العلوم، "أي: معرفة الآخرة ودقائق آفات النفوس ... ".
ولست أقول: إن اسم الفقه لم يكن متناولا للفتاوى في الأحكام الظاهرة، ولكن كان متناولا له بطريق العموم والشمول، أو بطريق الاستتباع, فكان إطلاقهم له على علم الآخرة أكثر.
ثم تصرف المتأخرون في اسم "الفقه" بالتخصيص، لا بالنقل والتحويل، إذ خصَّصوه بمعرفة الفروع الغريبة في الفتاوى والوقوف على دقائق عللها، واستكثار الكلام فيها، وحفظ المقالات المتعلقة بها.
وكان هذا التخصيص بعد أن انقرض السلف الصالحون، وذهب أهل القرون الفاضلة الأولون، وانقلبت العلوم كلها صناعات بعد أن كانت مقاصد وغايات"١.
وعلى هذا المنهج في عموم معنى كلمة "الفقه" جاء التعريف المنقول عن أبي
١ "إحياء علوم الدين" للغزالي: ١/ ٣٢، ٣٣ بتصرف يسير, وتقديم في بعض العبارات.