للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

{فَالِقُ الإِصْبَاحِ، وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا} ١؛ فجعل الليل سكنًا أمر لا يقتصر على زمان دون آخر؛ فقد وقع في الماضي، وهو يقع الآن، وسيقع بعد ذلك، غير أن الكلام فيه ما يقوي جانب الحال والمستقبل على الماضي، ويجعل الإضافة غير محضة؛ هو أن المحضة تقتضي -غالبًا- أن يكون المضاف اسمًا جامدًا، أو في حكم الجامد، فلا يعمل؛ وهذا يؤدي إلى اعتبار كلمة: "جاعل" في حكم الجامد، فلا تنصب مفعولًا به، ولا مفعولين، وإلى إعراب كلمة: "سكنا" المنصوبة، مفعولًَا به لعامل محذوف، تقديره "يجعل"، أو ما يماثله، وكأن الأصل: جاعل الليل يجعله سكنًا. وفي كل هذا عدول عن النسق الظاهر، والإعراب الواضح الذي يدخل الوصف "جاعل" هو وفعله في سلك الألفاظ العاملة التي تنصب مفعولين. وقد أضيف الوصف إلى أحدهما، ونصب الثاني مباشرة، فلا حاجة إلى تأول وتقدير يبعدان عن هذا السنن الواضح.

وشيء آخر؛ هو: أن زمن الوصف في الآية دائم مستمر؛ يشمل الماضي والحال، والمستقبل. ولكن هذا الدوام الزمني ليس متصل الأجزاء بغير انقطاع، وإنما يتخلله انقطاع يزول، ثم يعود مرة فأخرى؛ فحين يجعل الله الليل سكنًا يكون الليل موجودًا، وحين لا يجعله سكنًا يختفي. ثم يجعله مرة أخرى؛ ثم يزيله، ثم يعيده؛ وهكذا دواليك؛ ... فالاستمرار موجود حقًّا؛ ولكنه على ما وصفنا من توالي الإيجاد والإزالة بغير توقف، ومن تجدد الظهور والاختفاء بغير انقطاع٢، أما الدوام المتصل على حالة واحدة، هي: جعل الليل سكنًا في جميع لحظات الزمان وأوقاته - فلا وجود له.

ولما كان الانقطاع والتجدد هما من خصائص الفعل المضارع، وزمن المضارع هو الحال أو الاستقبال كان الوصف "المشتق" الذي يشاركه فيهما شبيهًا به من الناحية المعنوية، ومحمولًا عليه في ناحية أخرى، هي


١ شيئًا يستريح إليه المتعب بالنهار، ويسكن للراحة والاطمئنان فيه. "انظر ج"ص"٤٠".
٢ وهذا يسمى: الاستمرار المتجدد، أو الاستمرار التجددي، وله إشارة أخرى في رقم ٤ من هامش ص٢٤٧، وفي رقم ٢ من هامش ص٢٨٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>