أولهما: تخيل المتكلم أن المعنى الماضي الذي حصل وتحقق قبل النطق بالكلام -لم يحصل ولم يتحقق فيما مضى، وإنما يحصل ويتحقق وقت الكلام، أي: في الزمن الحالي؛ فكأن هذا المعنى يحصل ويتحقق أمامه الآن؛ لهذا يعبر عنه بفعل مضارع يدل على الحال. وثانيهما: أن يتخيل -أيضا- أنه لا يعيش في الزمن الذي يتكلم فيه، إنما رجع به زمنه إلى الوراء؛ ونقله من عصره الحاضر القائم إلى عصر مضى، ووقع فيه ذلك المعنى، فكأن المعنى يقع أمامه ويتحقق في الزمن الذي ينطق ويتكلم فيه بذلك المعنى؛ وهو: "الحال" ويجيء بالمضارع ليعبر عن هذا المعنى، وزمنه، بدلا من الماضي. فحكاية الحال الماضية قائمة تخيلا؛ إما: على تقديم المتكلم ونقله من زمنه الذي يعيش فيه إلى زمن سبق، وتحقق فيه المعنى، وإما: على تأخير زمن المعنى إلى عصر المتكلم. وفي الحالتين يستعمل المضارع بدل الماضي؛ للدلالة على أن زمن المعنى وزمن التكلم واحد؛ هو: الزمن الحالي. وكل هذا على سبيل التخيل، والتأول، والحكاية؛ فتحدث الآثار المشار إليها هنا وفي ص٣٤٦. ويوضح الاعتبارين السالفين المثال الآتي يقوله أحدنا اليوم. دعا الرسول عليه السلام قومه إلى طاعة ربه، وإلى ترك المرذول من عادات الجاهلية، فبذل الجهد في هذا السبيل، واحتمل الأذى من قومه، وصبر على ما لقيه من العنت والاضطهاد. فهذه قصة وقع معناها، وتحقق فعلا قبل النطق هنا؛ فالتعبير عنها بالفعل الماضي هو المناسب لها. لكن المتكلم قد يعدل عنه إلى التعبير بالمضارع؛ لسبب بلاغي ومعنوي -كما أشرنا- فيقول: "وهو يتخيل أن الزمن تقدم به إلى عصر النبي، فهو يشاهدها فيه، أو أنها تأخرت إلى عصره فهو يشاهدها كذلك، وفي الحالتين يكون زمن مشاهدتها والتكلم بها واحدا، هو: الزمن الحالي": إن رسولنا يدعو قومه ... ويبذل الجهد ... ويحتمل الأذى ... ويصبر ...