للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مثال نقض النفي بنفي آخر يتلوه فيزيل أثره: ما تزال تحسن المعاملة فتكتسب حب الناس؛ فقد وقع بعد "ما" النافية نفي آخر هو "تزال" فانقلب المعنى مثبتا بسببه، وفي هذه الصورة يجب رفع المضارع، ولا يصح نصبه.

وهل من النفي المحض النفي الواقع بعد: "الاستفهام التقريري"١؛ كقول الوالد يعاتب ابنه العاق: ألم أتعهد شؤونك صغيرا؛ فتتذكر فضلى؟ ألم أجاهد في سبيل إسعادك فتحمد جهادي؟

الصحيح جواز الأمرين، النصب على اعتبار النفي محضا، والرفع على اعتباره منقوضا وغير قائم؛ بسبب همزة التقرير، وبهما جاء القرآن. قال تعالى عن الكافرين: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ ... بِهَا} بنصب المضارع: "تكون". وقال في آية أخرى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً} ، برفع المضارع: "تصبح"٢..

وإذا كانت فاء السببية حرف عطف دائما، -كما تقدم-٣ والمعطوف بها هو المصدر المؤول بعدها -فأين المعطوف عليه؟

يقول النحاة: لا بد أن يكون المعطوف عليه مصدرا أيضا، ليتشابه المعطوف


١ الاستفهام الحقيقي هو: طلب معرفة شيء مجهول -حقا- للمتكلم. فهو يريد أن يعرفه. أما الاستفهام التقريري فيراد به -غالبا- ثبوت مدلول الشيء المسئول عنه، المعلوم للمتكلم؛ وتقريره في نفس المخاطب، والسامع، أي: طلب الاعتراف بوقوعه والموافقة على حصول مدلوله. فإن كان الاستفهام عن شيء منفي صار المعنى -غالبا- مثبتا بسبب الاستفهام المراد منه التقرير؛ نحو: ألم تحضر فأحسن إليك. فالمعنى: أنك حضرت فعلا، فأحسنت إليك. ومنه {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} -انظر ما يتصل بهذا في رقم ٣ من هامش ص٤١٣- وبسبب أنه يتضمن ثبوت المعنى، غالبا، وتقرير حصوله بغير نفي، قال بعض النحاة: إن المضارع لا ينصب معه بعد الفاء، وأن ما ورد منه منصوبا، كالآية الأولى {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ} فلمراعاة صورة النفي، ومظهره اللفظي، لا معناه، أو لمراعاة الاستفهام في الكلام، فما بعد الفاء -في هذه الصورة التي يراعى فيها الاستفهام- يكون جوابا للاستفهام؛ لا للنفي.
ولا يعنينا هذا الخلاف وما تفرع عنه من فروع كثيرة. إنما الذي يعنينا هو جواز الرفع والنصب مع ملاحظة أن المعنى على أحدهما يخالف المعنى على الآخر حتما. ولهذا تكملة هامة في رقم ٣ من هامش ص٣٦٢ "وتجيء إشارة موجزة -في رقم ١ من ص٣٧٢- لبعض ما سبق".
٢ انظر رقم ١ من ص٣٧٢ وقيل: إن كان ما بعد الفاء مسببا عما قبلها نصب المضارع؛ كالآية الأولى. وإلا رفع كالثانية؛ لأن رؤية نزول المال ليست سبب الخضرة.
٣ في ص٣٥٤ و٣٥٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>