خالطته- وبلغ الفتَاء آخر ذلك القرن، وسنوات من الثالث، فلمع من أئمته نجوم زاهرة؛ كعبد الله بن أبى إسحاق، والخليل، وأبى زيد، وسيبويه، والكسائى، والفراء، ونظرائهم من الأعلام، ثم توالت أخلافهم، على تفاوت فى المنهج، وتخالف فى المادة، إلى عصر النهضة الحديثة التى يجرى اسمها على الألسنة اليوم، ويتخذون مطلع القرن التاسع عشر مبدأ لها. فمن هذا المبدأ ألَحَّ الوهن والضعف، على "النحو"، وتمالأت عليه الأحداث؛ فأظهرت من عيبه ما كان مستورًا، وأثقلت من حمله ما كان خِفًّا، وزاحمته العلوم العصرية فقهرته، وخلفتْه وراءها مبهورًا. ونظر الناس إليه فإذا هو فى الساقة من علوم الحياة، وإذا أوقاتهم لا تتسع للكثير بل للقليل مما حواه، وإذا شوائبه التى برزت بعد كمون، ووضحت بعد خفاء - تزهدهم فيه، وتزيدهم نفارًا منه، وإذا النفار والزهد يكران على العيوب؛ فيحيلان الضئيل منها ضخمًا، والقليل كثيرًا، والموهوم واقعًا. وإذا معاهد العلم الحديث تزوَرّ عنه، وتجهر بعجزها عن استيعابه، واستغنائها عن أكثره، وتقنع منه باليسير أوما دون اليسير؛ فيستكين ويخنع.
والحق أن "النحو" منذ نشأته داخلته - كما قلنا - شوائب؛ نمت على مر الليالى، وتغلغلت برعاية الصروف، وغفلة الحراس؛ فشوهت جماله، وأضعفت شأنه، وانتهت به إلى ما نرى.
فلم يبق بد أن تمتد إليه الأيدى البارّة القوية، متمالئة فى تخليصه مما شابه، متعاونة على إنقاذه مما أصابه. وأن تبادر إليه النفوس الوفية للغتها وتراثها؛ المعتزة بحاضرها وماضيها؛ فتبذل فى سبيل إنهاضه، وحياطته، وإعلاء شأنه، ما لا غاية بعده لمستزيد.
ومن كريم الاستجابة أن رأينا فى عصرنا هذا -طوائف من تلك النفوس البارّة الوفية سارعت إلى النجدة؛ كُلٌّ بما استطاع، وبما هوميسر له؛ فمنهم من ذلل للناشئة لغته، أواختصر قاعدته، أوأوضح طريقة تدريسه، أوأراحهم من مصنوع العِلل، وضارّ الخلاف، أوجمع بين مزيتين أوأكثر من هذه المزايا الجليلة الشأن. لكنا -على الرغم من ذلك- لم نرَ من تصدى للشوائب كلها أوأكثرها؛ ينتزعها من مكانها، ويجهز عليها ما وسعته القدرة، ومكنته الوسيلة؛