الحياة وهب عليها اعصار شديد فيه نار محرقة. سرى الشك وسوء الظن في الاوساط الاسلامية، والبيوت العريقة في الدين والعلم، ففضلوا تعاليم الغرب على تعاليم القرآن، لأن الايمان بالله وبصفاته وبمواعيده قد ضعف من القلوب، فأصبح الأباء يضنون بأولادهم على الدين ولا يخاطرون بأوقاتهم في سبيل الدين وعلوم الدين، وأصبحوا يعلمونهم العلوم المعاشية واللغات الافرنجية لا رغبة في تحصيل المنافع ولا دفاعا عن الاسلام، بل زهدا في الدين، وفرارا من خطر المستقبل، وخوفا على أفلاذ أكبادهم من الضياع، واستسلاما للدهر المتقلب، وتسلط عليهم خوف الفقر، وهكذا انقرضت المعاهد الدينية، ولفظ هذا المعهد الروحي أنفاسه الأخيرة وأتى عهد المادة، وأصبحت الدنيا سوقا ليس فيها الا البيع والشراء، روي أن شاعرة جاهلية هي: كبشة بنت معديكرب عاتبت أخاها عمرو بن معديكرب وعيرته بميله الى قبول دية أخيه المقتول فقالت: ودع عنك عمرا، ان عمرا مسالم ... وهل بطن عمرو شبر لمطعم تصورت هذه المرأة الجاهلية أن بطن الانسان لا يتجاوز شبرا، فكيف لو رأت معدة انسان قرن العشرين تضخمت وكبرت حتى وسعت الارض، وتجاوزت فأصبحت لا يملأها الا التراب.
نعم تضخم الحرص على الدنيا، وتولد في الناس غليل لا يروى، أوار لا يشفى، تسلط على الناس الحرص والجشع، وأصبح الانسان نهما يلتهم الدنيا التهاما، والسبب في ذلك أنه لا يؤمن بالآخرة وكل انسان متمدن اليوم - الا من عصمه الله بالإيمان - يرى هذا الرأي، ويذهب هذا المذهب في الحياة، وكانت الرابطة بين الصغير والكبير في المجتمع الإسلامي مؤسسة على تعاليم الشرع (من لا يرحم الصغير ويوقر الكبير فليس منا (حديث شريف، ومن الغريب أن المسلمين قد أصبحوا في هذا الزمن في كثير من نواحي الأرض حتى في مراكز الاسلام وعواصمه حلفاء للجاهلية الأوربية وجنودا متطوعين لها، بل صار بعض الشعوب والدول الاسلامية يرى في الأوربيين ناصرين للمسلمين حامين لذمام الاسلام المستضعف حاملين لراية العدل في العالم قوامين بالقسط.