للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ذلك حال المعنى الواحد الذي تتصل أجزاؤه فيما بينها، فما ظنك بالمعاني المختلفة في جوهرها، كم تحتاج من المهارة والحذق؟ ولهذه المشقة نرى كثيرًا من البلغاء حين ينتقل من معنى إلى معنى لا يستغنى عن استعمال بعض الأدوات لسد الثغرة التي يحدثها الانفصال بين المعاني من نحو قولهم: "وبعد" أو "ونعود" أو "ننتقل إلى الحديث عن" أو "وسنتحدث" أو "بقي علينا" ونحو ذلك ...

وهذا شأن البلغاء في الحديث الواحد في المجلس الواحد فكيف لو جاء حديثه في أماكن مختلفة وأزمان متباعدة ألا تكون سمات الانفصال وظواهر الانقطاع أقوى وأشد.

حاشا القرآن فقد اشتملت السورة منه على وصف، وقصص، وتشريع، وجدل، وعقائد، وأمر، ونهي، ونزلت السورة في أوقات مختلفة وأزمان متباعدة، ورتبت آياتها بطريقة عجيبة يرسم مكان الآية ويحدد قبل أن تنزل الآية التي قبلها أو التي بعدها ثم لا يحدث أن تنقل من موضعها إلى آخر، فإذا نزل ما حولها من الآيات رأيت الترابط والتلازم كأنهن قطعة واحدة بل رأيتهن مع بقية آيات السورة كأنهن سبيكة واحدة فلا تجد فرقًا ولا يستبين لك أمر في معرفة ما نزل من السورة منجمًا وما نزل منهن مفرقًا فجاءت الكثرة الكاثرة من المعاني في السورة كأنهن معنى واحدًا أو آية واحدة محكمة السبك متقنة السرد١، ٢.


١ إن شئت دراسة وافية دقيقة لنموذج تطبيقي لهذا المعنى فانظر ما كتبه الدكتور محمد عبد الله دراز عن الكثرة والواحدة في سورة البقرة في كتابه النبأ العظيم من ص١٤٢ إلى نهاية الكتاب.
٢ إلى هنا انتهى ما اقتبسته مما كتبه في هذا الموضوع الدكتور محمد عبد الله دراز في كتابه القيم "النبأ العظيم" من ص٩٢، ولمزيد بيان انظر ما كتبه الشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني في كتابه "مناهل العرفان" ج٢ ص٣٢٥، ٣٥٣، والأستاذ مصطفى صادق الرافعي في كتابه "إعجاز القرآن والبلاغة النبوية" ص٢١٣، ٣٠٩.

<<  <   >  >>