للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الإسلام، فتشاغلت عنه العرب، وتشاغلوا بالجهاد وغزو فارس والروم، ولهيت عن الشعر وروايته، فلما كثر الإسلام وجاءت الفتوح واطمأنت العرب بالأمصار راجعوا رواية الشعر فلم يئلوا إلى ديوان مدون ولا كتاب مكتوب، فألفوا ذلك، وقد هلك من العرب من هلك بالموت والقتل، فحفظوا أقل ذلك، وذهب عنهم منه أكثره"٣.

على أن ما تحدث عنه عمر رضي الله عنه من أدب الجاهليين الباقي ووصفه بالقلة، لم يصل إلينا كله، إذ جاءنا منه جزء قليل بسبب ما حدث عن عوادي الزمن، والاضطرابات السياسية المختلفة، ونهب المراكز الحضرية على يد المغول، فكل ذلك كان له أثر كبير في ضياع جزء كبير مما كان له حظ التدوين من هذا التراث.

ومع قلة التراث الجاهلي، فإننا نجد أن النثر فيه أقل بكثير جدًّا من الشعر فيه، فالغالبية العظمى من هذا التراث شعر، مع أن العكس كان ينبغي أن يكون، فالعادة والواقع يؤيدان أن النثر أكثر من الشعر، وذلك لسهولة الأول وخلوه من الحدود والقيود، والشعر يحتاج إلى موهبة خاصة، ومقدرة لغوية ظاهرة، ومن ثم فالنثر أكثر دورانًا على الألسنة، وأسهل تأليفًا من الشعر، ولعل السبب في قلة الموروث من النثر الجاهلي أن أدب هذه الفترة كان يحفظ ويتناقل بطريق السماع والحفظ والرواية، ولم يدون إلا بعد مرور العصر الجاهلي بفترة طويلة، كما سنرى فيما بعد إن شاء الله. والنثر عادة مما يصعب حفظه، كما أنه لا يبقى في الذاكرة طويلًا، في حين أن الشعر يعلق بالذهن بسهولة، لما فيه من النغمات الموسيقية المنتظمة، وهذه تحبب كلا من القارئ والسامع فيه، وتستهويه لترديده، فيعلق أسرع وأسهل، ويظل في الذاكرة زمنًا أطول من النثر.

والأدب الجاهلي بالصورة التي وصل بها إلينا، يدل دلالة قاطعة على أن العرب في جاهليتهم كانوا قد قطعوا أشواطًا كثيرة متباعدة في سبيل التطور الأدبي، فهو أدب ممتاز في درجة عالية من التقدم والكمال، ولا يستطيع الإنسان معه أن يتصور أن هذا كان أول ما قاله العرب، أو أول محاولة أدبية لهم، حقيقة هو أقدم ما وصل إلينا من تراث أدبي للعرب، ولكن ليس أول ما قالوه في هذا المجال، بل لابد أنهم كانوا قد حاولوا محاولات شتى في التعبير الأدبي، وصوره الفنية حتى وصلوا بأدبهم إلى هذه الدرجة العليا من الكمال. ولو حفظ


٣ المرجع السابق، ص ١٠.

<<  <   >  >>