للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

لنا التاريخ جميع الخطوات التي سارها العرب في سلم التدرج نحو الكمال بأدبهم لاستطعنا أن نقف من وراء ذلك على ناحية هامة جدًّا من نواحي التطور العقلي والنفسي والعاطفي لدى الإنسان بوجه عام، والعربي بوجه خاص.

ولا شك أن الأدب الجاهلي كامل من ناحية اللغة والموسيقى والمعنى، ويدل دلالة قاطعة على تطور ناضج عند العرب في مجال التعبير والتصوير الأدبي الممتاز. مما يدل على روعته وعظم شأنه بقاؤه حيًّا خالدًا إلى اليوم بعد مرور هذا الزمن الطويل منذ نشأته إلى عصرنا الحاضر، كما أن الأدباء، كانوا ومازالوا، قديمًا وحديثًا، ينسجون على منواله، ويتخذونه المثل الأعلى، ويتمنون أن يجيء نتاجهم مثله، أو قريبًا منه، قوة، وروعة، وجمالًا، وصدقًا في التعبير والتصوير.

وفي خلال عمره الطويل، قامت عدة محاولات للخروج على تقاليده، أو منهجه، ومن ذلك ما حاوله بعض الأدباء في عصرنا الحاضر من التخلص بعض الشيء من قيود التقليدية، مقلدًا بعض الآداب الأجنبية، ولكن معظم هذه المحاولات لم يكتب لها من التوفيق ما كتب للأدب الجاهلي، ولم تجد من المتشيعين أو المشجعين ما يمكنها من الذيوع والانتشار، وما زال الأدب القديم صاحب السيادة والسلطان، ويحظى بالاحترام والإكبار من الجميع، مما يدل على أنه يتجاوب تجاوبًا تامًّا مع الذوق العربي العام في كل عصر منذ وجوده إلى اليوم، وهذا معناه أن العرب القدماء، كانوا قد وصلوا بحسهم الفني الصادق إلى خبرة عميقة دقيقة بالنفس الإنسانية ومشاعرها المختلفة وعواطفها الحقيقية، فأحسنوا تصويرها، وأجادوا التعبير عنها. والحق أن الإعجاب بالأدب الجاهلي وكماله الفني ليس مقصورًا على العرب والذوق العربي فقط، بل وصل إلى الأمم الأجنبية، فقد قرأ أبناء هذه الأمم الأدب الجاهلي، فوجدوا فيه النضج والكمال، ولمسوا مواطن الحسن والجمال فيه، فترجم كثير منه إلى لغات الأمم الأخرى، وهكذا عرف العرب وغير العرب مكانة الأدب الجاهلي الفنية الممتازة.

والتراث الذي بين أيدينا من الأدب المنسوب إلى الجاهليين ليس إلا تراث فترة قصيرة لا تتعدى قرنين من الزمان، قبل ظهور الإسلام، فأقدم نص فيه يرجع تاريخه إلى أوائل القرن الخامس الميلادي.

<<  <   >  >>