الراوية؟ فقلت له: إن الناس ليقولون ذلك، قال: فما بلغ من روايتك؟ قلت: أروي سبعمائة قصيدة أول كل واحدة منها: "بانت سعاد" فقال: "إنها لرواية". وفي موضع آخر يقول صاحب الأغاني١٧:
"إن الوليد بن يزيد قال لحماد الراوية: بم استحققت هذا اللقب، فقيل لك الراوية؟ فقال: بأني أروي لكل شاعر تعرفه يا أمير المؤمنين أو سمعت به، ثم أروي لأكثر منهم ممن تعرف أنك لم تعرفه ولم تسمع به، ثم لا أنشد شعرًا قديمًا ولا محدثًا إلا ميزت القديم منه من المحدث، فقال: إن هذا العلم وأبيك كثير، فكم مقدار ما تحفظ من الشعر؟ قال: كثيرًا، ولكني أنشدك على كل حرف من حروف المعجم مائة قصيدة كبيرة، سوى المقطعات من شعر الجاهلية دون شعر الإسلام قال: سأمتحنك في هذا، وأمره بالإنشاد: فأنشد الوليد حتى ضجر، ثم وكل به من استحلفه أن يصدقه عنه ويستوفي عليه، فأنشده ألفين وتسعمائة قصيدة للجاهليين".
ربما كان في بعض هذه الأخبار شيء من المبالغة، ولكنها على كل حال تدل على قوة الذاكرة، وسعة الأفق، لدى هؤلاء الذين خصصوا أنفسهم لهذه المهمة.
كانت المجالس الأدبية كثيرة في العصر الجاهلي، لكثرة المناسبات التي تستدعي هذه المجالس، وكان الأدب قوامها، فحبب الكثير من الناس في حضورها، والمداومة عليها، لشغفهم بالأدب وحبهم له، إما إلقاءً ونشيدًا وإما سماعًا ومتعة، وإما رغبة في حفظه وهضمه، لتغذية مواهب أدبية ناشئة أو لصيانته ونشره في الآفاق بين مختلف الأجيال. كان الأدب يحظى بالاهتمام والعناية والرعاية والنشر عن طريق السماع والمشافهة والرواية. واستمر اهتمام العرب بالأدب كذلك في صدر الإسلام، فكما كان الأدب موضع الاهتمام في العصر الجاهلي، احتل كذلك مكان عالية بين العرب بعد ظهور الدعوة الإسلامية الجديدة، بل كان الأدب عمادًا هامًّا للدعوة منذ جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم وخير شاهد على ذلك القرآن الكريم والحديث الشريف، وهما من الفصاحة في الذورة العليا، فأولهما كلام الله تعالى جل شأنه خالق البلاغة والبلغاء، وثانيهما كلام الرسول عليه الصلاة والسلام أفصح البلغاء أجمعين.