للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ويقال إنه أيضًا وضع على شعراء عبد القيس شعرًا موضوعًا كثيرًا، وعلى غيره، وأخذ عنه أهل البصرة والكوفة، قال فيه المبرد٥١ "لم ير أحد قط أعلم بالشعر والشعراء منه، وكان يضرب به المثل في عمل الشعر، وكان يعمل على ألسنة الناس، فيشبه كل شعر يقوله بشعر الذي يضعه عليه، ثم نسك، فكان يختم القرآن في كل يوم وليلة، وبذل له بعض الملوك مالا عظيمًا خطيرًا على أن يتكلم في بيت شعر شكوا فيه، فأبى ذلك وقال: قد مضى لي في هذا ما لا أحتاج أن أزيد فيه. وعليه قرأ أهل الكوفة أشعارهم، وكانوا يقصدونه لما مات حماد، لأنه كان قد أكثر الأخذ عنه، وبلغ مبلغًا لم يقاربه حماد، فلما تقرأ ونسك خرج إلى أهل الكوفة، فعرفهم الأشعار التي قد أدخلها في أشعار الناس، فقالوا له: إنه كنت عندنا في ذلك الوقت أوثق منك الساعة. فبقي ذلك في دواوينهم إلى اليوم فكان مطعونًا في روايته، لكذبه وافترائه، مثل حماد الرواية، "ولكن يظهر أن خلفًا كان أقل جرأة من حماد على الكذب"٥٢. ومات خلف حوالي سنة ١٨٠هـ.

وهكذا يرمى حماد وخلف بالاختلاق والكذب والانتحال، ويدعى أنهما كانا شاعرين ماهرين في عمل الشعر، وأنه بلغ من حذقهما واقتدارهما على الشعر أن كان كان منهما يقول شعرًا يشبه شعر القدماء، حتى إنه ليشتبه على كبار العلماء والنقاد، ولا يفرقون بينه وبين الشعر القديم.

وأعتقد أن كلا منهما يستحق أن يطعن في صدقه ونزاهته لما شاع عنهما من الكذب وعدم الدقة فيما يرويانه، فيبدو أن أفق محفوظاتهما كان واسعًا جدًّا وتعددت في ذاكرتيهما الأمثلة المتشابهة من القطع الأدبية، مما أوجد عندهما اضطرابًا في الدقة المطلوبة، فكانا يخلطان بين هذه القطع، وينسبان بعض القطع لمن ليست لهم، أو يدعيانها لنفسيهما.

ولا شك أن لمرور الزمن، وكثرة المحفوظ في الذاكرة، وتزاحمه فيها، وتشابه كثير منه، أثرًا كبيرًا في عدم الدقة في روايتي حماد وخلف وشيوع الكذب فيما يدعيان، وربما كان مما ساعدهما على المضي في ذلك ما كان فيهما من التبجح، والمجون وعدم المبالاة، كما شاهدنا في حادثة حماد مع الطرماح التي أشرنا إليها من قبل. ولكنني لا أعتقد أن كلا منهما كان شاعرًا موهوبًا


٥١ مراتب النحويين، ص٤٧، والمزهر، جـ١، ص١٧٧.
٥٢ ضحى الإسلام، جـ٢ ص٢٩٣.

<<  <   >  >>