للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وفي بعض الأحيان نجد أن البيت أو البيتين أو الثلاثة تنسب لقائل مجهول، ويحدث ذلك غالبًا في الشواهد الشعرية، مما دعا الباحثين إلى الاعتقاد باختلاقها لتبرير رأي، وفي كثير من هذه الحالات يحاول الراوي أن يذكر أن القائل رجل أو أمراة، أو من قبيلة كذا.

وفي نسبة الأثر إلى صاحبه، قد يحدث خلط واضطراب، بسبب تشابه الأسماء، فهناك مثلًا أربعة أدباء كل منهم اسمه كثير، وعشرة كل منهم امرؤ القيس، وثمانية باسم النابغة، وستة عشر باسم الأعشى، وقد ألفت في ذلك كتب عديدة، منها: معجم الشعراء للمرزباني، والمؤتلف والمختلف للآمدي، وقد يحدث هذا اللبس بين أدباء القبيلة الواحدة مثل هذيل، إذ فيها عشرات من الشعراء فإذا قيل الهذلي بدون تعيين، لم يعرف أيهم المقصود.

ولذلك كثيرًا ما كانوا يضيفون الشعر المجهول النسب إلى شاعر اشتهر بقوله في الغرض الذي فيه النص، وفي ذلك يقول الجاحظ: "ما ترك الناس شعرًا مجهول القائل، قيل في ليلى إلا نسبوه إلى المجنون، ولا شعرًا هذا سبيله قيل في لبنى إلا نسبوه إلى قيس بن ذريح ٢٩، كما أنهم نسبوا إلى عنترة العبسي كل شعر حوى اسم عبلة".

هذه هي أهم الظواهر التي نراها في تدوين الأدب الجاهلي، ولكن مهما يكن، فإن الرواة قد قاموا بمهمة جليلة، إذ حفظوا لنا هذا التراث الرائع. والرواية الشفهية -وإن ضاع بسببها شيء كثير، بسبب كثرة المحفوظ فيها وتزاحمه، مع تقادم الزمن، واختلاف الميول والأهواء- فقد كان لها الفضل الأكبر في تنقل هذا التراث من جيل إلى جيل، صحيحًا سليمًا في النطق والأداء والتلقي، بعيدًا عن التحريف والتصحيف، كما أن الرواة الذين قاموا بتدوين هذا التراث قد أدوا للأجيال التالية لهم وللأدب نفسه خدمات عظيمة الشأن، فقد حفظوا هذه الكنوز من الضياع وسط تيارات الحياة المضطرمة، ومشاغلها المعقدة المتشابكة التي تلت أيام هؤلاء الحفظة الأفذاذ، فسجلوها في بطون الكتب، فظلت خالدة، وما بقي منها إلى اليوم يعتبر من أمهات المراجع للأدباء والعلماء والباحثين, وإنه لمما يؤسفنا أشد الأسف أن كثيرًا مما دونه هؤلاء الرواة والعلماء في عصر التدوين قد ضاع بسبب عوادي الزمن والاضطرابات السياسية ونهب المراكز الحضرية على يد المغول. ومما بقي لنا من آثار العلماء الأجلاء نجد أنهم بذلوا مجهودًا ضخمًا في الجمع والتدوين، والدرس والبحث، وتمييز


٢٩ الأغاني جـ٢ ص٨.

<<  <   >  >>