للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

صورة أخرى يدهش لها الذين تعودوا أن يعتمدوا على هذا الشعر الجاهلي في درس الحياة العربية قبل الإسلام. فهم يعتقدون أن العرب كانوا قبل الإسلام أمة معتزلة، تعيش في صحرائها لا تعرف العالم الخارجي، ولا يعرفها العالم الخارجي، وهم يبنون على هذا قضايا ونظريات، فهم يقولون: إن الشعر الجاهلي لم يتأثر بهذه المؤثرت الخارجية التي أثرت في الشعر الإسلامي: لم يتأثر بحضارة الفرس والروم. وأنى له ذلك؟! لقد كان يقال في صحراء لا صلة بينها وبين الأمم المتحضرة، كلا! القرآن يحدثنا بشيء غير هذا، القرآن يحدثنا بأن العرب كانوا على اتصال بمن حولهم من الأمم، بل كانوا على اتصال قوي، قسمهم أحزابًا، وفرقهم شيعًا. أليس القرآن يحدثنا عن الروم وما كان بينهم وبين الفرس من حرب انقسم فيها العرب إلى حزبين مختلفين: حزب يشايع أولئك، وحزب يناصر هؤلاء؟ أليس في القرآن سورة تسمى "سورة الروم" تبتدئ بهذه الآيات: {الم، غُلِبَتْ الرُّومُ، فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ، فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ، بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ} ؟ لم يكن العرب إذن كما يظن أصحاب هذا الشعر الجاهلي معتزلين.

فأنت ترى أن القرآن يصف عنايتهم بسياسة الفرس والروم، وهو وصف اتصالهم الاقتصادي بغيرهم من الأمم في السورة المعروفة: {لإِيلافِ قُرَيْشٍ، إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ} وكانت إحدى الرحلتين إلى الشام حيث الروم، والأخرى إلى اليمن حيث الحبشة، أو الفرس".

والحق أن الأدب الجاهلي لا يصور العرب في الجاهلية منعزلين عما سواهم من الأمم، وبخاصة من كانوا يجاورونهم، كالروم والفرس والحبشة، من ذلك ما يقوله ابن سلام:

"وكان أبو الصلت يمدح أهل فارس حين قتلوا الحبشة، في كلمة قال فيها:

لله درهم من عصبة خرجوا ... ما إن ترى لهم في الناس أمثالا

بيضا مرازبة غرًّا جحاجحة ... أسدًا تربب في الغيضات أشبالا

لا يرمضون إذا حرت مغافرهم ... ولا ترى منهم في الطعن ميالا

من مثل كسرى وسابور الجنود له ... أو مثل وهرز يوم الجيش إذ صالا

فاشرب هنيئًا عليك التاج مرتفقًا ... في رأس غمدان دارا منك محلالا"٤٣


٤٣ طبقات الشعراء، ص٦٦.

<<  <   >  >>