فكانت ديارهم في الشمال، أو قريبًا منه، وليسوا من أولئك الذين كانوا يعيشون في أقاصي اليمن، فليس هناك من الأدباء الجاهليين الجنوبيين الذين وردت لهم نصوص أدبية جاهلية، من كانت داره في الجهات النائية من القسم الجنوبي. ولعل ذلك مما ينهي الخلاف أو يضيق شقته على الأقل. وبذلك ننتهي إلى أنه من المعقول -وهو الواقع فعلًا- أن يتحد الشماليون والجنوبيون في اللغة الأدبية، قبل ظهور الإسلام للأدلة التي وضحناها آنفًا، ومعظمها واقع وملموس. ولا ينبغي مطلقًا أن يكون اتحاد الجنوبيين والشماليين في لغة الأدب المنسوب إليهما سببًا في الطعن في أصالته.
ويتحدث الدكتور طه حسين عن الشعر الجاهلي واللهجات الشمالية، فيحاول أن يتخذ من ذلك مطعنًا جديدًا في أصالة الأدب الجاهلي، وصدقه، فيقول ٦٢: "فالرواة مجمعون على أن قبائل عدنان لم تكن متحدة اللغة ولا متفقة اللهجة قبل أن يظهر الإسلام، فيقارب بين اللغات المختلفة، ويزيل كثيرًا من تباين اللهجات. وكان من المعقول أن تختلف لغات العرب العدنانيين، وتتباين لهجاتهم قبل ظهور الإسلام. فإذا صح هذا كله كان من المعقول جدًّا أن تكون لكل قبيلة من هذه القبائل العدنانية لغتها ولهجتها ومذهبها في الكلام، وأن يظهر اختلاف اللغات وتباين اللهجات في شعر هذه القبائل الذي قيل قبل أن يفرض القرآن على العرب لغة واحدة ولهجات متقاربة، ولكننا لا نرى شيئًا من ذلك في الشعر الجاهلي، فأنت تستطيع أن تقرأ هذه المطولات أو المعلقات التي يتخذها أنصار القديم نموذجًا للشعر الجاهلي الصحيح، وسترى أن فيها مطولة لامرئ القيس، وهو من كندة أي من قحطان، وأخرى لزهير، وأخرى لعنترة، وثالثة للبيد، وكلهم من قيس، ثم قصيدة لطرفة، وقصيدة لعمرو بن كلثوم، وقصيدة أخرى للحارث بن حلزة، وكلهم من ربيعة. تستطيع أن تقرأ هذه القصائد السبع دون أن تشعر فيها بشيء يشبه أن يكون اختلافًا في اللهجة، أو تباعدًا في اللغة، أو تباينًا في مذهب الكلام: البحر العروضي هو هو، وقواعد القافية هي هي، والألفاظ مستعملة في معانيها كما تجدها عند شعراء المسلمين، والمذهب الشعري هو هو. كل شيء في هذه المطولات يدل على أن اختلاف القبائل لم يؤثر في شعر الشعراء تأثيرًا ما. فنحن بين اثنتين: إما أن نؤمن بأنه لم يكن هناك اختلاف بين القبائل العربية من عدنان وقحطان