الكتابة، التي لا يتسع لقيد النثر وحفظه سواها، ثم إن الشعر أيسر حفظًا، وأطول بقاء في الذاكرة من النثر. فإذا لاحظنا ذلك كله، مع ما سبق بيانه عن الظروف التي أحاطت بالأدب الجاهلي في روايته وتدوينه، تبين لنا بوضوح، السبب في قلة النثر عن الشعر في المدون من الأدب الجاهلي.
وقد سبق أيضًا في القسم الثاني أن الأدب الجاهلي، بفرعيه: الشعر والنثر، جاء بلغة أدبية، فصيحة بليغة، تعهدها الأدباء بأذواقهم، وعنايتهم، واهتامهم، فنمت، وترعرعت، وثبتت أقدامها، وتوطدت دعائمها، حتى أصبحت قوية البنيان، متينة الأركان. فجاءت إلينا نصوصهم الأدبية في صورة لغوية ناضجة، كاملة، بحيث يستحيل معها الاعتقاد بأن النصوص الأدبية الجاهلية، كانت أول نصوص أدبية لهم، حقيقة هي أقدم نصوص أدبية للعرب، ولكنها ليست أول محاولاتهم في ميادين الأدب؛ لأنه لا يمكن أن يصدق العقل أن يخلق الأدب أول ما يخلق في صورة كاملة النضج، فالجنين لا يولد إنسانًا كاملًا، بل إنه لا بد أن يقضي زمنًا طويلًا، ينمو فيه جسمه، وتتكون خلاياه، ويبني لنفسه شخصية تمكنه من ملاقاة الزمن وأحداثه ليقوى على مغالبتها، ويبقى على الرغم منا حيًّا. فالمحاولات الأدبية الأولى قد ضاعت ضياعًا تامًّا من الوجود، وكذلك ضاع كثير مما تبعها من محاولات أرقى منها نوعًا. ولذلك لا يمكننا أن نعرف سلسلة التطور الأدبي عند العرب من بدايتها إلى أن وصلت إلى الحالة التي عليها النصوص الجاهلية. فالأصول الأولى للأدب العربي قد ضاعت، ولم يبق منها إلا هذا الذي طلع علينا من قلب الصحراء -نثرًا وشعرًا- تام الخلقة، ممثلًا الطور الأخير من أطوار نضجه وكماله. وفيما يلي الحديث عن النثر ثم يليه الحديث عن الشعر في العصر الجاهلي.