خلال هذه النماذج أنه كان فيهم ميل للصلح وحب للخير كهذا الذي نراه في كثير من تصرفات الحكام في المفاخرات والمنافرات وفي مساعي الصلح بين الأعداء والمتخاصمين لفض النزاع بالطرق السلمية.
وربما تكون القصص والأخبار التي تحكي عن حوادث معينة لم تحتفظ بنفس ألفاظ النص الجاهلي وعباراته فاعتراها التغيير من جانب الرواة والقصاصين لكن لا شك أن الأحداث التي فيها، لها أصل تاريخي. أما الحكم والأمثال المنسوبة إلى الجاهليين، فهي في الغالب صحيحة في نسبتها إليهم، خصوصًا ما جاء عن راوية موثوق به كالمفضل الضبي؛ ذلك لأن الحكم والأمثال -على العموم- سرعان ما تعلق بالذهن، وتظل بالذاكرة مدة طويلة وبخاصة إذا أتيحت لها الفرص لإعادتها وتكرارها؛ ثم إنها دونت في عهد مبكر، منذ القرن الأول، فقد كتب فيها عبيد بن شرية كتابًا. وإن كان هذا الكتاب قد فقد، فغلب على الظن أن من كتب فيها من بعده قد انتفع بكتابه هذا. على أن النصوص الدخيلة يغلب على الظن أن تكون تقليدًا مطابقًا للأصل بحيث نستطيع أن نتبين منها خصائص النثر في العصر الجاهلي.
والقصص الخرافية والأمثال الفرضية لا شك أنها كانت ترمي إلى تصوير حالات وتصرفات إنسانية ولم يرض مؤلفوها أن يكتبوا عن هذه الحالات أو التصرفات بالتصريح والتعيين، فاخترعوا هذه القصص مكتفين للوصول إلى أغراضهم بالتلميح والإشارة من طرف خفي. ولا ريب أنها كانت ترمي كذلك إلى الناحية التهذيبية والتوجيه إلى الخير والنفع وبخاصة ما كان منها حكمًا وأمثالًا. ولا ريب أن تأليفها يدل على الذكاء، وقوة الملاحظة، وخصوبة الخيال لدى مؤلفيها.
وفي النثر الجاهلي ألفاظ وعبارات قد تبدو لنا غريبة. ولكن ذلك ليس لغرابتها في الأصل؛ ولكن لعدم استعمالنا لها، وفي بعض القطع النثرية تبدو السهولة في التعبير والمعنى بشكل واضح، ولا يجوز أن تكون هذه السهولة وحدها سببًا في الطعن في أصالة هذه النصوص، فليست السهولة متعارضة مع الأصالة الجاهلية، فكثير من النصوص الجاهلية شعرية ونثرية، سهلة الأسلوب، وهي مقطوع بصحتها وأصالتها، وفي القرآن الكريم يتجلى الأسلوب السهل الواضح في كثير من آياته، بل في كل سورة من سوره بأكملها.
وواضح جدا أن أصحاب النثر الجاهلي كانوا يعنون عناية ظاهرة بالألفاظ والعبارات فكانوا -على ما يبدو- يختارون ويدققون في الاختيار، ويظهر ذلك في القوة والجزالة،