والتنغيم الموسيقي الذي نراه في الجمل النثرية على اختلاف الأشكال والأساليب ففي جميع أنواع النثر الجاهلي نجد الرصانة والانسجام التام بين الكلمات والعبارات بعضها وبعض، كما تظهر الناحية الموسيقية ظهورًا تامًّا في كل جملة، حتى إن الجملة قد تصلح أن تكون شطر بيت من الشعر لما فيها من النغمات الموسيقية المنتظمة، وبخاصة في الحكم والأمثال، مثل:"وتحت الرغوة اللبن الصريح"، فهي شطر من الوافر.
وجاء في النثر الجاهلي نثر مرسل، ونثر مسجع، ويغلب النثر المرسل في خطب الصلح والمعاهدات، وأما النثر المسجع ففي المفاخرات والمنافرات وفي نثر الكهان، بل إنه التزم في هذا الأخير التزامًا فكان الكهان لا يقولون إلا سجعًا ولذلك أطلق على نثرهم "سجع الكهان" ويظهر أن الجاهليين كانوا يعجبون بالنثر المسجع، حتى إنه كان يجيء أحيانا في الجملة الواحدة، مثل "إذا فزع الفؤاد ذهب الرقاد" و "ليس من العدل سرعة العذل" و "رب قول أنفذ من صول" ولكنه على العموم كان سجعًا لطيفًا وجميلًا في موقعه مما يوحي بأنه طبيعي لا أثر للصنعة فيه، إلا في سجع الكهان، فالتكلف واضح فيه.
ويغلب في النثر الجاهلي الميل إلى الجمل القصيرة وبخاصة في الحكم والأمثال حتى إن الجملة قد تجيء مكونة من لفظتين فقط مثل "حر انتصف" و"سميعًا دعوت".
كما كان يتخلل نثرهم، وبخاصة الخطابة، أبيات شعرية، فتضفي على الكلام جمالًا، وروعة.
وفي النثر الجاهلي الوضوح والصراحة بحيث لا يحتاج إلى كد الذهن أو التعمق في الخيال، وليس هناك غموض إلا في سجع الكهان، وقد ذكرنا آنفًا أن الكهان كانوا يتعمدون الإبهام في سجعهم، فكانوا يقصدون إليه قصدًا.
وقد ورد في النثر بعض المحسنات البلاغية كالتشبيهات والاستعارات، والجناس؛ كما في "العدل" و"العذل" في "ليس من العدل سرعة العذل"؛ وكما في "قول" و"صول" في "رب قول أنفذ من صول".
ومن هذا كله يتبين أن النثر الجاهلي يمكن أن نعتمد عليه في تصوير الحياة واللغة العربية في العصر الجاهلي تصويرًا صادقًا، ومن أنواعه المختلفة يتضح أنه كان متنوع الأغراض متعدد الاتجاهات. وهو يدل دلالة واضحة على قوة الملاحظة، ودقة الإحساس، ورقة الشعور لدى أصحابه، ويتجلى فيه ذوقهم الفني بما تحقق لهم فيه من حسن التعبير وجمال التصوير.