وهذه الذكريات تثير الهموم، وما أشد الهموم في الليل، وما أقسى الليل على المهموم، إنه يقض مضجعه ويطير النوم من عينيه، ويلفه في ظلام حالك ويأخذه في دوامة تقلبه هنا وهناك لا يعرف أين هو، ولا كيف يسير، ولا ماذا يفعل، ويلقي عليه بأحماله وأثقاله حتى ليكاد يزهق أنفاسه، ويطول كأنه لا ينتهي، ويقف كأنه لا يتحرك، يتمنى أن يسفر الصبح، ولكن ماذا يفيد الإصباح ذا القلب الحزين:
فقلت له لما تمطى بصلبه ... وأردف أعجازًا وناء بكلكل
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي ... بصبح، وما الإصباح منك بأمثل
فالهم في الصبح لا يزال، والحزن كما هو فماذا يفعل؟ إنه لا حيلة له إلا أن يترك هذا المكان في أقرب وقت، وبأقصى سرعة، فينهض منتفضًا، ويسبق الطيور قبل أن تغادر أماكن مبيتها، ويغدو ممتطيًا صهوة جواده في رياضة ممتعة، محببة إلى النفس فيمضي في رحلة جميلة للصيد، وفي هذا الجانب من معرض الشاعر نرى لوحات فنية رائعة: الحصان الجواد الكريم، القوي النشيط السريع، الضخم الجسم، المدرب على الكر والفر والإقبال والإدبار، كميت اللون ناعم الجسم، ضامر الخصر، قصير الساق، طويل وظيف الرجل والذراع، وظهره أملس مستوٍ ينزلق عنه اللبد، وذنبه سابغ قصير العسيب، في جريه تتابع وسهولة واتزان، وسرعته تشل حركة الوحوش، ويقذف براكبه الخفيف ويطيره في الهواء، ويمزق ثياب الثقيل المتشبث بظهره، لشدة ما يثيره من ريح عاتية، واندفاعه عنيف خاطف:
وقد أغتدي والطير في وكناتها ... بمنجرد قيد الأوابد هيكل