ثم استعاد وقت الفراق، فتحدث عن الظعائن الجميلات الرشيقات وكانت هوادجهن قد كسيت بالقماش والستائر، وفرشت بالأثاث الفاخر، وسار بهن الموكب حثيثًا، في وسط الوديان والجبال يلفها السراب:
شاقتك ظعن الحي يوم تحملوا ... فتكنسوا قطنًا تصر خيامها
من كل محفوف يظل عصيه ... زوج عليه كلة وقرامها
زجلا كأن نعاج توضح فوقها ... وظباء وجرة عطفا أرآمها
حفزت وزايلها السراب كأنها ... أجزاع بيشة أثلها ورضامها
ثم عاد يسأل نفسه: وماذا تذكر ممن بعدت عنك، وقد تقطع جديد وصلها وقديمه وهي ليست من أهلك، وبينك وبينها مسافات بعيدة شاسعة؟ ثم انتهى إلى قطع الصلة بمن تغير حاله:
بل ما تذكر من نوار وقد نأت ... وتقطعت أسبابها ورمامها
مرية حلت بفيد وجاورت ... أهل الحجاز فأين منك مرامها
فاقطع لبانة من تعرض وصله ... ولشر واصل خلة صرامها
وقطع الصلة يكون بمفارقته والتسلية عنه، وخير ما يكون ذلك بالسفر على ناقة مدربة على الأسفار حتى صارت ضامرة، ومهما نالها من التعب والإعياء فإن نشاطها يظل كما هو، فتجري بسرعة شديدة.
بطليح أسفار تركن بقية ... منها فأحنق صلبها وسنامها
فإذا تغالى لحمها وتحسرت ... وتقطعت بعد الكلال خدامها
فلها هباب في الزمام كأنها ... صهباء راح مع الجنوب جهامها
ثم أراد أن يوضح سرعتها فصورها بصورة أتان قد استبان حملها تجرى هاربة من فحل يطاردها، وهو حمار عنيف فيه آثار طرد الفحول وضربها بأرجلها وعضها، فأخذ يعلو بها الهضاب والمرتفعات، وقد رابه منها امتناعها عليه ورغبتها فيه، وكانت الحجارة التي تجعل أعلامًا ليعرف بها الطريق تثير خوفهما، فينطلقان بسرعة أكثر. ولما انقضى موسم البرد، وكان