للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قد طال صيامهما عن الماء، وجاء الصيف فتطايرت أشواك السنابل وهبت الريح الشديدة الحرارة، عزما على ورود الماء، فانطلقا مسرعين يثيران غبارًا كثيفًا يغطي الشمس، وقد حرص الحمار على أن تكون الأتان أمامه حتى لا تحاول الفرار أو العدول عن الطريق، إلى أن وصلا إلى جدول فتوسطا ناحية منه، وشققا عينًا محاطة بقصب منه ما هو مائل، ومنه ما هو قائم، وذلك حيث يقول:

أو ملمع وسقت لأحقب لاحه ... طرد الفحول وضربها وكدامها

يعلو بها حدب الأكام مسحجًا ... قد رابه عصيانها ووحامها

حتى إذا سلخا جمادى ستة ... جزءا وطال صيامه وصيامها

رجعا بأمرهما إلى ذي مرة ... حصد، ونجح صريمة إبرامها

ورمى دوابرها السفا وتهيجت ... ريح المصايف سومها وسهامها

فتنازعا سبطًا يطير ظلاله ... كدخان مشعلة يشب ضرامها

فمضى وقدمها وكانت عادة ... منه، إذا هي عردت، أقدامها

فتوسطا عرض السري وصدعا ... مسجورة متجاورًا قلامها

محفوفة وسط اليراع يظله ... منها مصرع غابة وقيامها

ثم أراد أن يزيد السامع بيانًا عن سرعة ناقته، فأورد لها صورة أخرى، وهي صورة بقرة وحشية مذعورة، أكل السبع ولدها، فتخلفت عن القطيع، وظلت في الخميلة تبحث عن ولدها، وتصيح به لئلا يكون النبات قد أخفاه، ولكنه افترسته ذئاب كاسرة، والتهمت أشلاءه على حين غفلة من أمه، وباتت ليلة قاسية، هطل فيها المطر غزيرًا على هذه الخميلة، وتلبدت السماء بالغيوم، فحجبت النجوم، وأطبق الظلام، وكانت البقرة بيضاء، فبدت في وسط السواد الحالك شديدة البياض، وخيمت الرهبة والوحشة على المكان، فامتلأت البقرة فزعًا ورعبًا، وتملكها القلق والاضطراب فتنحت جانبًا، واحتمت بشجرة طويلة الفروع في طرف كثيب رملي، ولكن المطر كان يهطل على ظهرها بغزارة فتزداد رعشة، حتى إذا أسفر الصبح، أسرعت مبكرة لتغادر مأواها، ولكن قوائمها كانت تزلق ولا تثبت على الأرض لكثرة ما بها من الطين، وأخذت تجوب المكان، وتتردد بين الغدران ذهابًا وجيئة سبعة أيام بلياليها في حيرة وفزع، حتى يئست من العثور على ولدها، وجف ضرعها، وبينما هي في

<<  <   >  >>