للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

رحلة صيد ممتعة يعجبه فيها كل شيء، فيصف الحصان ومنظر البقر الوحشي، ومعركة الصيد، وكيف كانت نهايتها حلوة يتناول ما لذ وطاب من ألوان اللحوم، وفي إحدى روحاته أو غدواته تغير الجو وتلبدت السماء بالغيوم، ونزل المطر، فسالت الأودية والروابي، وعم الخير وعبق العطر، فانتشى الطير، وازينت الأرض فاكتست حللًا جميلة، متنوعة الأشكال والألوان، فالروابط في المعلقة تكاد تكون خفية تحتاج إلى تأمل.

أما في معلقة طرفة فالصلة بين الأفكار واضحة إذ كان الشاعر ينتقل من جزئية إلى أخرى بتمهيد صريح: فقد بدأ بالأطلال والوقوف عليها، فجره ذلك إلى موكب الارتحال، ووصف من كان يحب في هذا الموكب. فعلاه الهم فلم يجد وسيلة لتسليته خيرًا من ناقته القوية السريعة، فيصفها وصفًا بديعًا، مبينًا قوتها وسرعتها وطعامها والعناية بها، ثم نسب إليها أنها هي التي تساعده على القيام بالأمور الخطيرة والأعمال الجليلة، فكان ذلك مدخلًا لطيفًا للحديث عن نفسه، فانطلق في فخر شخصي، وكأنما أحس أنه بما نسبه لنفسه من صفات وأمجاد محبوب من جميع الناس وموضع احترامهم؛ ولذلك تعجب من سلوك ابن عمه معه الذي كله تعنت وعناد وظلم، وقارن بين شعور كل منهما تجاه الآخر فكان ذلك مدعاة للحديث عن نفسه مرة أخرى في فخر شخصي آخر، وفي أثناء حديثه عن سلوكه وأحواله يتخلل كلامه بعض الحكم التي ساقها لمناسبات اقتضتها، فالروابط بين أجزاء معلقة طرفة واضحة صريحة.

وأما زهير فقد بدأ معلقته بالحديث عن ديار الحبيبة وما آلت إليه، فجره ذلك أيضا إلى الحديث عن موكب الارتحال، والعلاقة بين هذين واضحة، ثم انتقل إلى الحديث عن الساعين في الصلح بين المتحاربين، وهذا اقتضاه أن يتحدث إلى المتحاربين لتبصيرهم بمغبة الاندفاع وراء الأهواء، وما ينتج عن الحروب من المحن والآلام، وساق في النهاية حكمًا تدعم ما يتحدث فيه ليتم مشروع الصلح بنجاح، والصلة وثيقة بين الديار وموكب الارتحال، وهي كذلك وثيقة بين الحديث عن الساعين في الصلح والحديث إلى المتحاربين، وقد يبدو أن هناك فجوة في الانتقال من موكب الارتحال إلى مدح الساعين في الصلح، ولكن إذا تأملنا نفسية الشاعر فسوف نجد أن الشاعر قد ألف قصيدته وهو تحت سيطرة الانفعال بحب الأمن والسلام، فكلما تحقق ذلك رضي به واطمأن، وهذا الرباط النفسي وجد في جميع جزئيات القصيدة، فحينما تحدث عن الأطلال وما آلت إليه بعد هجرالحبيبة عنها منذ عشرين سنة وتكاثرت فيها الظباء والبقر والنعام، وظهر عليهن جميعًا الأمن والراحة والاستقرار، سره

<<  <   >  >>