ذلك، فرضي به، ودعا للربع في النهاية بالنعيم والسلام، وكذلك حينما تحدث عن موكب الارتحال، ومن كن فيه، وما ظهر عليه من مظاهر الترف والنعيم، وصل بهن إلى منزل طيب جميل نزلن فيه نزول المقيم الآمن الهادئ، فكان منظرًا أنيقًا، أقر عينه وأثلج فؤاده وأرضاه، ولذلك لم نره يسفح دمعة واحدة لا عند الأطلال ولا في أثر الارتحال، وإذا كان ذلك أثار إعجابه وسروره، فلا شك أن من يضحي في سبيل السلام أشد إثارة للإعجاب والسرور، ويستحق المدح والثناء فانتقل إلى الإشادة به، ففكرة الأمن والاستقرار والسلام هي التي سيطرت على الشاعر، فكانت الرباط الوثيق بين جزئيات القصيدة من أولها إلى آخرها.
وأما لبيد فقد بدأ بالحديث عن ديار الحبيبة التي هجرتها من سنين، وتعاورتها الرياح والأمطار فتخربت، وسكنتها الوحوش، ووقف يسألها، ولكنه تعجب من سؤال أصم لا يبين، وجره ذلك إلى الحديث عن الأظعان وابتعادهن، وانقطاع الصلة بينه وبين من كان يحب، وتعجب كذلك من تأثره بفراق من قطع الصلة، وجزاؤه قطع الصلة بالابتعاد عنه على ناقة قوية سريعة، صور سرعتها بسرعة أتان حامل يطاردها حمار عنيف، كلفها عناء ومشقة شديدين، فكانت تولي هاربة منه بسرعة فائقة وكذلك صور سرعة ناقته بسرعة بقرة وحشية حزينة طاردها الصيادون وكلابهم، فانطلقت فزعة بسرعة شديدة لتنجو بحياتها، ثم قال: إن هذه الناقة هي التي تجعله يقوم بجميع ما عليه من واجبات والتزامات، فكان ذلك تمهيدًا للبدء في فخر شخصي انتقل منه إلى فخر قبلي بأنه من قوم شأنهم كيت وكيت، فالترابط واضح في المعلقة من أولها إلى آخرها.
وأما عنترة فقد بدأ بالديار وتحيتها والدعاء لها بالخير لأن حب من سكنها تمكن من قلبه بالرغم من عدواته لقومها، وبعدها عنه، وتمنى أن توصله إليها ناقة قوية شديدة أخذ في وصفها، وكأنه يتخيل أنه وصل فوجدها محجبة دونه، فقال: إنه خبير بتمزيق دروع الأبطال، وانطلق يحكي صفاته وأخلاقه وسلوكه، وأخذ يضرب أمثلة لشهامته ومروءته بما يثبت أنه بطل كريم، ذو مروءة وأخلاق، فهي قصيدة محبوكة تتسلسل فيها الأفكار في تتابع مرتب منسق.
وأما عمرو بن كلثوم فقد بدأ بطلب الصبوح، ثم أعقبه بالحديث عن الظعينة، وسألها عن سبب الارتحال، وما وراءه بالنسبة للصلة بينهما، ثم عقب على ذلك بأن المستقبل غيب، لا يعلم عنه المرء شيئًا، فكأنه بذلك كان يريد أن يعرف حقيقة شعورها نحوه من ناحية، ويترقب ما يجيء به المستقبل من أحداث من ناحية أخرى، وخصوصًا مما يتصل بعمرو بن هند الذي