وفي معلقة لبيد، نرى الرغبة في الوصول إلى الأهداف والغايات على أساس الحقيقة والواقع لا جريًا وراء الأوهام، ولا تعلقًا بالأماني والأحلام البعيدة المنال، مع اتخاذ الحيطة والحذر، ومعالجة الأمور بالعقل والتدبر، فالأطلال قد درست، والمكان تبدل بأنسه وبهجته الوحوش والوحشية، وأصبحت الأطلال لا خير له فيها، فلا جدوى من الوقوف بها والاستخبار عن أهلها، وكان ارتحال الحبيبة مثيرًا للشوق، ولكن ما فائدة تذكرها وقد بعدت وقطعت الصلة، فخير ما يجب أن يقطع صلة من قطعه، فالجزاء من جنس العمل، وليترك المكان بالسفر على ناقة دائمة النشاط والسرعة، مهما بلغ منها الإعياء، في سبيل الوصول إلى الغاية المنشودة، ولتكن في جريها كأتان حامل تهرب من حمار يطاردها بعنف فتجري، وتسلك مسالك وعرة، وتتحمل ما تتحمل من العناء والتعب في سبيل المحافظة على سلامتها وسلامة جنينها، أو لتكن الناقة في جريها كبقرة وحشية حزينة غفلت عن ولدها فافترسته الذئاب، وفاجأها الصيادون فولت هاربة في عنف وسرعة فائقة، حتى إذا أحست الخطر دخلت معركة عنيفة مع أعدائها فصرعتهم ونجت بحياتها، وناقته التي تلك سرعتها تعينه على إبعاد ما ينغص حياته أو يسبب اللوم أو المؤاخدة؛ لأنه هو وقومه يعرفون قيمة الحياة الكريمة، فيحافظون على ما يحمي شرفهم ويعلي مكانتهم مهما كلفهم من مشقات وتضحيات، فالكل يكافح ويقاسي في سبيل حب البقاء.
أما معلقة عنترة ففيها الشهامة بمثلها العليا ومبادئها النبيلة، فيها الوفاء بالعهد للديار وإن أصبحت أطلالًا، فلها التحية والمهابة والاحترام، والوفاء بالعهد لمن سكنتها وإن باعدت بينهما الظروف، فلها كل محبة واحترام، وهو يدخل الحروب ويجابه الأخطار لأغراض سامية، لا طمعًا في كسب، ولا جريًا وراء نزوة، فيقاتل وينتصر فيتعفف عن الغنائم ولا ينظر إليها، ويقتل حليل الغانية الصنديد ولا يمسها بسوء، ويحافظ على شرف المرأة ولو كانت من الأعداء، ويدعو لحبيبته ألا تكون لأحد إلا عن طريق الحلال، وأمنيته أن تكون هي الحلال له، ويعرض بطولاته وأمجاده أمام حبيبته، ليؤكد لها أنه قادر على حمايتها والمحافظة عليها معززة مكرمة في وقت كانت النساء فيه نهبًا لمن استطاع أخذهن بالقوة حيث لا قانون إلا القهر والغلبة، وهو في أوقات الشدة وساعات الخطر محط الآمال وموطن الرجاء، وموضع الثناء والإعجاب.
ومعلقة عمرو بن كلثوم، تصور الرغبة في التعالي وحب العظمة في النفس البشرية، لا في