فرد واحد، ولكن في مجموعة، فهي تتغنى بصفات القبيلة المثالية تجاوبًا مع التيار العام السائد في العصر الجاهلي، حيث لا أمان إلا بالقوة والإرهاب، فما هي إلا ذكر المفاخر والأمجاد، وحديث عن الأصل والحسب والشرف والقوة والعزة والصلابة والعناد في هذه القبيلة. وقد انطلق الشاعر في كلامه بقوة وحماسة وحمية تجعل كلا من القارئ والسامع تنتفخ أوداجه، ويشمخ برأسه ويتطاول إلى السماء، كأنما يتمنى أن يكون واحدًا من هؤلاء الموصوفين: عزة وإباءً، وكثرة في البر، ورهبة في البحر.
أما معلقة الحارث بن حلزة فيسيطر الغضب فيها؛ فقد امتلأت جوانح الشاعر غيظًا ألهب عواطفه، فثار ثورة عنيفة، فانطلق يروي ويروي مفصلًا ومبينًا حتى لتحس كأنما يهدد، ويرغي، ويزبد، ويتطاير منه الحمم كبركان ثائر يقذف بالجمر: فضح الخصوم وعدد مخازيهم، وسرد معايبهم في عرض قوي مثير، وأشاد بقومه في لباقة تثير العجب، وتجلى ذكاء الحارث، وعبقريته الفنية في مزجه مدح عمرو بن هند بذمه الأعداء وبفخره بقومه.
وأعتقد أن من أسباب خلود المعلقات، أن كلا منها تشبع غريزة من غرائز النفس البشرية، فهناك حب الجمال في معلقة امرئ القيس، والطموح وحب الظهور في معلقة طرفة، والرغبة في الأمن والاطمئنان في معلقة زهير، وحب البقاء والكفاح في سبيل الحياة في معلقة لبيد، والإعجاب بالشهامة والمروءة في معلقة عنترة، وحب التعالي والعظمة في معلقة عمرو بن كلثوم، والغضب للشرف والكرامة في معلقة الحارث بن حلزة.