للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أكثر وأقوى إذا كان للإنسان في هذا المكان ذكريات حلوة جميلة لا أمل في استرجاعها، وبقدر ما فقد المرء من المتعة تكون درجة التأثر عمقًا وشدة، وحينئذ لا غرابة أحيانًا إن سيطر الحزن على الإنسان، أو عصرته اللوعة، أو ملأه الهم والغم، ولا عجب إن حاول التفريج عن نفسه بالبكاء، فلعل الدموع تطفئ نار الوجد، أو تقلل من ثقل الحزن، لهذا أعتقد أن الشعراء الجاهليين كانوا صادقين في تصوير انفعالاتهم بآثار الديار وموكب الارتحال، فذلك تعبير عن مشاعر حقيقة للنفس البشرية في هذه المواقف، ولا شك أن الشاعر في هذه الأحوال يكون في أوج التهيج والانفعال، ومن ثم فليس عجيبًا إن تواردت الخواطر وتتابعت الأفكار وجاء الفيض الشعري الذي نراه في المطولات.

وأصحاب المعلقات الذين بدءوها بالأطلال ومواطن الارتحال، إن اتفقوا في الفكرة فقد اختلفوا في الصورة، فقد لمس كل منهم الفكرة من زاوية خاصة، وعرضها بصورة خاصة، ومن يتأمل هذه المطالع فسيتضح له أن كلا منهم كان يحاول أن يجعل الافتتاحية ملائمة للشعور العام الذي يسيطر عليه في القصيدة كلها.

ففي معلقة امرئ القيس، أطلال لديار عفت وسكنتها الآرام، وظعائن تسير، والشاعر يقف باكيًا حزينًا، وفي معلقة طرفة أطلال تكاد آثارها لا ترى والشاعر واقف بها في أسى ولوعة، والظعائن تسير في موكب ضخم عظيم تشق الوديان في سرعة ونشاط، وعند زهير أطلال أصبحت مواطن أمن واستقرار للبقر والظباء وأولادها فيحييها ويدعو لها بالخير. وظعائن مترفات منعمات يصلن إلى مكان أمين مريح، وعند لبيد ديار تخربت وأصبحت مرعى لقطعان الماشية فلا أمل له منها يرتجى، وظعائن فارقن وقطعن الصلة، أما عنترة فديار حبيبته لها واجب التحية والوفاء، والحبيبة وإن بعدت فلها كل محبة وإكرام، وظعينة عمرو بن كلثوم يسألها عن حقيقة شعورها نحوه: قطيعة أم خيانة للعهد، أما الحارث بن حلزة فقد أعلمته الحبيبة بالرحيل، وقد خلت الديار منها فلا جدوى من البكاء عندها، وذلك يوضح أن الشاعر وإن اتفق مع غيره في الفكرة فإن جانب الانفعال لديه كان يختلف، من هنا تأتي الصورة متغايرة.

ومن ناحية مناسبة البدء لفحوى القصيدة، نجد ذلك متحققًا، مما يدل على أن الشاعر كان ذكيًّا دقيق الإحساس، فمعلقة امرئ القيس لوحات لبعض مظاهر الجمال في الطبيعة والإنسان، وافتتاحيتها حسرة وألم لما فاته من متعة بالجمال، ومعلقة طرفة تصوير للطموح.

<<  <   >  >>