وما سيموا به من الخزي والعار، وما سببوه لهم من هموم وأحزان بما توعدوهم به من تهديد، وذرفوا الدمع سخينًا على ضحاياهم، ذاكرين أفضالهم ومشيدين ببطولاتهم وتضحياتهم، آخذين العهد على أنفسهم بالثأر لهم في عشرات من أعدائهم، إلى أن تهدأ نفوسهم، ويطمئن بالهم، واعتذروا عما بدر مما لا يناسب الخلق الكريم، أو البطل العظيم، ومدحوا اعترافًا بالفضل، وتخليدًا للشهامة والمروءة ووصفوا كل ما وقعت عليه عيونهم من مظاهر الجمال، فأتوا في كل ذلك بروائع الصور، فامتلأ شعرهم بفنون عديدة من الشعر الغنائي، ففيه الوصف، والغزل، والفخر، والمدح، والهجاء والذم، والتهديد، والرثاء، والإنذار، والاعتذار، والنصح، والحكمة.
وفي الشعر الجاهلي لا نجد الشاعر يؤلف قصيدته في غرض واحد من هذه الأغراض، فيندر أن نجد قصيدة، وبخاصة تلك الطوال، تتكون من غرض واحد، بل إن كل قصيدة كانت في معظم الأحوال تتألف من الحديث في أكثر من فن واحد من هذه الفنون، فتحتوي القصيدة الواحدة مثلًا على الغزل والوصف، والفخر والهجاء، والوعيد، وقد تشتمل على أغراض أكثر من هذه، كل ذلك راجع لهوى الشاعر، وطواعية الشاعرية له، والمثيرات التي تهيج عاطفته، أو تحرك مشاعره.
والقصيدة الطويلة التي تضم أكثر من موضوع ربما كانت تؤلف كلها بموضوعاتها المختلفة دفعة واحدة، أي أن كل موضوع كان يثير ما يليه بمعنى أن أساس القصيدة كان من أول الأمر موضوعًا واحدًا يتناوله الشاعر في قصيدته، ويتحدث عنه باعتباره الغرض الأساسي لها، ثم يجره هذا الموضوع إلى غيره، فالحديث ذو شجون، وهكذا يتوارد على خاطر الشاعر كثير من المواضيع فتتدرج كلها في سياق الحديث تبعًا لمقتضيات الحديث، وطبيعة نفس المتحدث، وطريقتها في التشعيب، ومدى تذكرها للموضوع الأصلي، ومع حسن الربط بين هذه الموضوعات تبدو القصيدة متناسقة، مترابطة الأجزاء، حتى لو كانت هناك غرابة بين هذه الموضوعات.
وربما كانت القصيدة الواحدة التي تشتمل على أكثر من موضوع تؤلف على فترات، بمعنى أن الشاعر كان يؤلف أبياتًا في موضوع واحد، ثم تمضي فترة من الأيام، فتعن له أبيات في موضوع آخر، ويأتي بها على نفس الوزن والقافية، وهكذا في عدة موضوعات، ثم يربط بين هذه الموضوعات بما يراه مناسبًا، فتجيء القصيدة الواحدة متعددة الموضوعات والأغراض.