للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

كأن مكاكي الجواء غدية ... صبحن سلافًا من رحيق مفلفل٢٥

كأن السباع فيه غرقى عشية ... بأرجائه القصوى أنابيش عنصل٢٦

وهنا يصف الشاعر البرق بأنه كان يلمع وسط السحاب، في سرعة خاطفة كحركة اليدين ويرسل ضوءه في الجهات كأنما هو مصباح قوي مليء زيتًا، وأخذ الشاعر يتأمل السحاب فإذا به ينزل مطرًا مدرارًا، ويجري على الأرض سيلًا جارفًا يقتلع الأشجار والمنازل، ويخرج الوحوش من أوكارها، فتجري هاربة تبحث عن مأوى بعد أن دمر السيل مواطنها، ولكنها لا تفلت من قوة السيل وقسوته، فيجرفها تياره، وتلقى حتفها، وترى بعد من مخلفات السيل ضمن الغثاء الذي ملأ الأرجاء، ولكن الطيور فرحت به وابتهجت، ففي الصباح الباكر أخذت تغرد وتشدو بأعذب الألحان وقد كان حظ هذا الوادي الذي فاض بسيله أن ازدهر بالخصب، فامتلأ بالنبات والأزهار، وعمت الفرحة جميع الناس.

فإذا ما أردنا تصويرًا للحيوانات التي بصحراء الجاهليين، وجدنا شعراءهم قد أتوا بأوصاف جميع هذه الحيوانات، وبخاصة ما كان شديد الصلة بحياتهم منها، فالخيل والإبل، كان لهما أكبر الأثر في حياتهم، إن في السلم، وإن في الحرب، فأكثروا فيها القول، حتى وصفوا جميع أجزاء أجسامهما، وصوروا كل أحوالهما، وتكاد جميع القصائد الطوال من أشعار الجاهليين لا تخلو من أوصاف لهما، ومن القصائد التي صورت الإبل بجميع جزئياتها صغيرة وكبيرة، معلقتا طرفة ولبيد، وقد بدأ طرفة حديثه عن ناقته بأنها هي التي تنسيه الهم، فكلما نزل بساحته كرب أو غم، التجأ إليها، فذهبت به بسرعة، إذ سرعان ما تحمله وتنتقل به من مكان إلى آخر، فيرى من المظاهر المختلفة ما يبعث في نفسه الراحة والمتعة، ويؤكد ذلك


٢٥ مكاكي: جمع مكاء وهو طائر. الجواء: من الأرض العظيم، وقيل هو ما اتسع من الأرض. وقد يكون جمعًا واحده جو، صبحن: شربن من الصبوح، السلاف: أول ما يعصر من الخمر. والرحيق: صفوة الخمر، والمفلفل: الذي قد ألقيت فيه التوابل، يقصد أن الطيور كانت تغرد كأنها سكارى من الخمر؛ وذلك لأن الطيور حينما ترى الخصب والمطر تفرح وتشدو كأن كلا منها شارب يغني. فهي لا تغرد إلا في الخصب.
٢٦ العنصل: بصل بري يعمل منه خل شديد الحموضة لا يقدر على أكله. والأنابيش جماعات من العنصل يجمعها الصبيان، ويقال: الأنابيش: العروق، وسميت أنابيش لأنها تنبش أي تخرج من الأرض، الأرجاء: النواحي والجوانب واحدها رجا، وهنا يشبه السباع الغرقى بتلك الأنابيش من العنصل.
ولخفاف بن ندبة أبيات في مثل معنى أبيات امرئ القيس مذكورة في الأصمعيات: دار الكتب ١٩٦٤ ص٢٥ب، ٢٩-٣٨.

<<  <   >  >>