طريقته السّمع ولا مدخَلَ للعقل فيه فإنّما يعرَف منه قَدر ما عرّف به السّمع، وقد مال بعض شيوخنا إلى هذا الجواب الثّاني وقدح في الأوّل بأنه لم يثبت أن أمَد رؤيَاه - صلى الله عليه وسلم - قبل النّبوءة كانت ستّةَ أشهر وبأنه بعد النّبوءة رأى مناماتٍ كثيرة فيجب أن يلفّق منها ما يضاف إلى الستّة أشهر فيتغيرّ الحساب وتَفسد النّسبة ولا وجه عندي لاعتراضه بما كان من المنامات خلال زمن الوحي لأنّ الأشياء توصف بما يغلب عليها وتنسب إلى الأكثَرِ منها فَلَماَّ كانت الستَّة أشهر محَضة في المنامات والثَّلاث والعشرون سنة جلّها وحي وإنما فيها منامات شيء يسير يعَدُّ عدًّا صَحَّ أن يطرح الأقَل في حكم النّسبة والِحسَاب.
ويحتمل عندي أن يراد بالحديث وجه آخر وهو أنّ ثمرة المناماتِ الخبر بالغَيب لا أكثَر وإن كان يتبع ذلك إنذار وَتَبشِير والإخبار بالغيب أحَد ثمرات النبوّة وأحد فوائدها وهو في جنب فوائد النبوّة والمقصود بها يسير لأنّه يصح أن يبعَثَ نَبيء ليشرع الشرائع ويبينّ الأحكام ولا يخبر بغيب أبدا، ولا يكون ذلك قادحا في نبوّته ولا مبطلا للمقصود منها وهذا الجزء من النبؤة وهو الإخبار بالغيب إذَا وقع فلا يكون إلَاّ صدقا ولا يقع إلاّ حقا، والرّويا ربما دلّت على شيء ولم يقع ما دلّت عليه إمّا لِكَونهَا مِن الشّيطان أو من حَدِيثِ نَفسٍ أو من غَلَطِ العَابِر في أصل العبارة إلى غير ذلك من الضُّروب الكثيرة التي توجب عدم الثقة بدلالة المنام فَقد صار الَخبر بالغَيب أحَدَ ثمرات النّبوءة وهو غير مقصود فيها ولكنه لا يقع إلا حَقًّا، وثمرة المنام الإخبار بالغيب ولكنه قد لا يقع صدقا فتقدر النّسبة في هذا بقدر ما قدَّره الشرع بهذا العدد على حسب ما أطلعه الله سبحانه عليه ولأنه يعلم من حقائق نبؤته ما لا نعلمه نحن. وهذا الجواب وإن كان فيه ملاحظة لما قدمناه من الجواب الثاني عن بعض أهل العلم فإنهم لم يكشفوه هَذا الكشف ولَا بَسَطوه هَذا البَسطَ.