ثم قال الإمام: ولا يجوز أن يكون الأمر على خلاف ذلك، وما نص الشافعي- رضي الله عنه- على قولين، ولا على أقوال مجموعة، ولكن نظر الناظرون تردداً صادفوه في كلامه، فحسبوه ترديد قول، وإنما هو ترديد حال.
قال النواوي في "الروضة": وهذا التفصيل هو الراجح.
تنبيه: قول الشيخ: "فإن اضطر إلى أكل الميتة .. " إلى آخره يوقظك لأمور:
أحدها: أن الذي يباح له أكل الميتة هو الذي إن ترك الأكل هلك؛ لأنه جعل ما يجوز أكله في أحد القولين ما يسد الرمق- وهو بفتح الراء والميم: بقية الحياة- فدلَّ على أنه انتهى إلى حالة دون ذلك، ومن هذا حاله لو ترك الأكل هلك، وقد صرح الأصحاب [باعتبار ذلك].
وقال الإمام في موضعين من كتابه: إنه لا يشترط حصول العلم بذلك؛ بل غلبة الظن، ويكفي استناده إلى مبادئ الأمور من غير بصيرة.
ثم قال: لكن من ضرورة الظن أن يميل فيه العقل إلى أحد المعتقدين، ويترجح تعلقه به على تعلقه بالثاني؛ وهذا يستدعي سبباً لا محالة؛ فإن الظن لا يغلب من غير سبب، فلو اعترض حال، وكان صاحبها، يجوز أداؤها إلى الموت لو لم يأكل الميتة، ويجوز السلامة، ولا يترجح أحد المعتقدين [على الآخر] –فالتردد مع ما جبلت عليه النفوس من حب البقاء يجر خوفاً، وهذا الخوف لا مستند له من ظن، فالذي أرى القطع به: أنه يجوز لمن هذا وضعه أن يأكل الميتة؛ لأنَّا لو منعناه من الأكل حتى يعلم أو يظن، فربما يهلك في تربصه، وطلبه العلم أو الظن، وإن طلب طالب تلقي هذا من قول المشايخ، فهو صريح في كلامهم؛ فإنهم جوزوا أكل الميتة عند الخوف من الموت، وهذا خائف، ثم لا يشترط [-أيضاً-] أن ينتهي إلى حالة يكون فيها مشرفاً على الموت؛ إذ لو أشرف عليها، لم ينعشه الطعام، ولا ينجع فيه ما يتعاطاه؛ فينبغي أن نبيح له الأكل وهو على حاله، لو أكل لاستقل وانتعش، وحينئذ تكون الحالة التي يسوغ فيها الأكل حالة من أشرف على الإشراف على الموت لو لم يأكل، لا من أشرف على الموت.