يقول الشيخ محمد عبد الله دراز -في سياق تعريفه للقرآن-: (روعي في تسميته قرآنا كونه متلوًا بالألسن، كماروعي في تسميته كتابًا كونه مدونًا بالأقلام، فكلتا التسميتين من تسمية الشيء بالمعنى الواقع عليه، وفي تسميته بهذين الاسمين إشارة إلى أن من حقه العناية بحفظه في موضعين، لا في موضع واحد، أعني أنه يجب حفظه في الصدور والسطور جميعًا، فلا ثقة لنا بحفظ حافظ حتى يوافق الرسم المجمع عليه من الأصحاب، المنقول إلينا جيلاً بعد جيل، على هيئته التي وُضع عليها أول مرة. ولا ثقة لنا بكتابة كاتب حتى يوافق ما هو عند الحفاظ بالإسناد الصحيح المتواتر، وبهذه العناية المزدوجة التي بعثها الله في نفوس الأمة المحمدية اقتداءً بنبيها صلى الله عليه وسلم بقي القرآن محفوظا في حرز حريز، إنجازًا لوعد الله الذي تكفل بحفظه، حيث يقول: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)(الحجر: ٩) ، ولم يصبه ما أصاب الكتب الماضية من التحريف والتبديل وانقطاع السند، حيث لم يتكفل الله بحفظها، بل وكلها إلى حفظ الناس، فقال تعالى:(والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله)(المائدة: ٤٤) ، أي بما طلب إليهم حفظه. والسر في هذه التفرقة أن سائر الكتب السماوية جيء بها على التوقيت لا على التأبيد، وأن هذا القرآن جيء به مصدقًا لما بين يديه من الكتب ومهيمنًا عليها، فكان جامعًا لما فيها من الحقائق الثابتة، زائدًا عليها بما شاء الله زيادته، وكان سادًّا مسدها، ولم يكن شيء منها ليسدَّ مسدَّه، فقضى الله أن يبقى حجة إلى قيام الساعة، وإذا قضى الله أمرًا يسر له أسبابه، وهو الحكيم العليم) .