للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بَيَانُ الثَّانِي: أَنَّ الْوُجُوبَ مَاهِيَّةٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ جَوَازِ الفِعْلِ، وَمِنَ الْمَنْعِ مِنَ التَّرْكِ، وَالْمُرَكَّبُ يَكْفِي فِي ارْتِفَاعِهِ ارْتِفَاعُ حَدٍّ قُيِّدَ بِهِ؛ فَيَكْفِي فِي نَسْخِ الْوُجُوبِ ارْتِفَاعُ الْمَنْعِ مِنَ

===

فاحتج صاحب الكتاب على هذا التقدير فقال: "إن المقتضى للجواز قائم" لأنَّ المقتضى للوجوب قائم؛ إِذْ الفَرْضُ فيه؛ وإذا كان الوجوب ثابتًا، والجوازُ جُزْؤُهُ، وجزءُ الثابت ثابتٌ- كان الجوازُ ثابتًا.

قوله: "والمعارض الموجود لا يصلح أن يكونَ معارضًا"، يعني أنَّ الموجود هو النسخ، والنسخ يقتضي إبطال الحقيقة، وحقيقة الوجوب مُرَكَّبَةٌ من قيدين، كما ذكر من جواز الفعل، والمنع من الترك.

والمُرَكَّبُ كما ينتفي بانتفاء جميع أجزائه، فإنه ينتفي أيضًا بانتفاءِ بعضها، ويكفي في رفع الوجوب رَفْعُ المنع من الترك، ورفعُ الجواز مُحْتَمَلٌ، والأصل بقاؤه؛ لأنَّ المُقْتَضي لثبوته قائم، والمُعَارِضَ مشكوكٌ فيه.

واعتُرِضَ عليه: بأنَّا لا نُسَلِّمُ تفسيرَ الجواز برفع الحَرَجِ؛ فإنه ثابت في أفعال البهائم والصبيان، ولا تُوصَفُ بالجواز؛ بل معناه: التخييرُ، والتخييرُ ليس جزءًا من الواجب. سلمناه، لكن لا نُسَلِّمُ أنه ثابت بالشرع، بل من البراءة الأصلية، والشرعُ لم يَدُلَّ إلَّا على العمل على الفعل. سلمناه، ولكن لا نسلم بَقَاءَهُ؛ فإنه تابع فينتفي لانتفاءِ المتبوعِ.

فإن قلتم: إنه أَعَمُّ، ولا يلزمُ من انتفاءِ الأَخَصِّ انتفاءُ الأعم- قلنا: لا نُسَلِّمُ عَدَمَ انتفائه مطلقًا، بل إنما يتقرر ذلك إذا اختصَّ كُلُّ واحد من الأعم والأخص بوجودٍ يَخُصُّهُ؛ كالجسم والنمو.

أما إذا كان العمومُ، والخصوصُ راجعينِ إلى وجوه واعتباراب في العقل، واتَّحَدَا في الوجود الخارِجِيِّ كاللونية والسَّوادِيَّةِ في السواد- فإنه يلزمُ من إبطالِ السوادية إبطالُ اللَّونية المُخْتَصَّةِ بها؛ بل إنْ وُجِدَتْ لونِيَّةُ البياضِ في المحلِّ فهي لونيةٌ أخرى؛ لاتحادهما في الوجود.

فإن قلتم: إنَّ الأمر هنا ليس كذلك، سلمناه، لكن لِمَ قلتم: إنَّ الرافعَ يتعين عند الإطلاق بالأخص؟

والجواب عن الأول: أنه لا خلافَ في صحة إطلاق الجواز بمعنى رفع الحَرَجِ؛ قال الله تعالى: {لَيسَ عَلَيكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة ١٩٨].

وعن الثاني: أَنَّ دَلالةَ العقل لا تمنع دلالةَ الشرع.

وعن الثالث: أنه يكفي في انتفاءِ الماهِيَّةِ انتفاءُ الأخص.

قوله: إنه لا يلزم من انتفاءِ الأخص انتفاءُ الأعم مطلقًا؛ لجواز أن يكونا اعتبارين في العقل- قلنا: ولو سُلِّمَ ذلك لم يَضُرَّ ها هنا؛ فإنَّ الحكم الشرعي راجع إلى القول والذكر النفسي، ولا يمنع تَعَلُّقُهُما بالوجوه والاعتباراتِ، كما يَصِحُّ طلب المُطْلَقَاتِ، وإن كانت لا تؤخذ إلَّا مُعَيَّنَةً.

<<  <  ج: ص:  >  >>