الْجَوَابُ عَنِ الأَوَّلِ: أَنْ نَقُولَ: لَعَل مُوسَى -عَلَيهِ السَّلامُ- بَيَّنَ أَنَّ شَرِيعَتَهُ غَيرُ دَائمَةٍ؛ إلَّا أَنَّهُ إِنَّمَا بَيَّنَ ذلِكَ بِطَرِيقٍ لَا يُعْرَفُ إِلَّا بِالنَّظَرِ وَالتَّأَمُّلِ؟ فَلَا جَرَمَ: لَمْ يُنْقَلْ عَلَى سَبِيلِ التَّوَاتُرِ.
وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّ الْيَهُودَ قَلَّ عَدَدُهُمْ فِي زَمَانِ بُخْتَنَصَّرَ- وَبَلَغُوا في الْقِلَّةِ إِلَى حَيثُ لَا يَحْصُلُ الْيَقِينُ بِقَوْلِهِمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ
قَال أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ: النَّسْخُ: عِبَارَةٌ عَنِ انْتِهَاءِ مُدَّةِ الْحُكْمِ؛ وَهُو الْمُخْتَارُ.
وَقَال الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلانِيُّ: النَّسْخُ: عِبَارَةٌ عَنْ رَفْعِ الْحُكمِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ الأَوَّلِ: أَنَّ طَرَيَانِ الطَّارِئ مَشْرُوطٌ بِزَوَالِ الأَوَّلِ، فَلَوْ عَلَّلْنَا زَوَال الأَوَّلِ بِطَرَيَانِ هذَا الطَّارِئِ- لَزِمَنَا الدَّوْرُ.
وَأَيضًا: فَلَيسَ ارْتِفَاعُ المُتَقَدِّمِ بِطَرَيَانِ هذَا الطَّارِئِ، أَوْلَى مِنِ ارْتِفَاعِ هذَا الطَّارِئِ؛
===
ما اعتمده القاضي في الرَّدِّ على المعتزلة من الوجهين:
الوجه الأَوَّلُ: قال: لو عُدِمَ الضِّدُّ بالضد، للزم الدَّوْرُ؛ لأنَّ شرطَ إِعدامِهِ له قيامُهُ بِمَحَفلِّهِ، وشَرْطَ قِيَامِهِ بمحلّهِ عَدَمُ ضِدِّهِ؛ فلا يُعْدَمُ حَتَّى يقومَ به، ولا يقومُ به حتى يُعْدَمَ الضِّدُّ، فيدور.
ورُدَّ على القاضي: بأَنَّ ذلك ليس دورًا تقدميًّا، وإنما هو دور معي، ولا استحالةَ فيه.
فيقال: زَمَنُ العَدَمِ من القيام، وهذا على أصله أَلْزَمُ؛ فإِنَّهُ يقول: إِنَّ الجوهرَ إذا قَبِلَ العَرَضَ لم يَخْلُ عنه أو عن مثله، أو عن ضِدِّهِ إنْ كان له ضِدَّ، والمستحيلُ اجتماعُ المِثْلَينِ والضدين، فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يكونَ زمانُ قيامِ المثلِ والضِّدِّ زمانَ عَدَمِ الآخر ولا تنافي.
الوجه الثاني: أَنَّ معقولَ التضادِّ مع الجانبين معقولٌ واحد، فليس عَدَمُ الحاصِلِ بالطارئ - بأولى من مَنْعِ الحاصل لطريان الطارئ.
وأُجِيبَ: بأَن الطارِئَ يترجحُ طَرَيَانُهُ بالفاعل المختارِ، والضِّدُّ يَقْتَصِرُ لنفسه عدم الحاصل؛ كما يقال: إنَّ البارِي -سبحانه وتعالى- يُوجِدُ العلمَ، والعِلْم يقتضي لنفسه كَوْنَ مَحَلَّهِ عالمًا على رأي مَنْ يرى التعليلَ.
وكما أَنَّ اللهَ تعالى يخلق للعبدِ القدرةَ والإرادَةَ وسلامَةَ البنية، والعبد فاعِلٌ عند المعتزلة، أو كاسِبٌ عند الأَشْعَرِيَّةِ، ولا يكون فاعِلُ السَّبَبِ فاعلًا لِلْمُسَبَّبِ، إِلَّا أَنَّ القاضي لا يُمْكِنُهُ الدَّفْعُ بهذين الجوابين؛ لاعتقادِهِ صِحَّةَ الوجهين.
وإنما يُفْرَقُ بين انتقاءِ الأَمْرِ بطريان الخطابِ الدَّالِّ على النهي، وبين إِعدامِ البياض بالسوادِ بأنَّ الأَوَّلَ راجِعٌ إِلى التعريف، ولا استحالةَ فيه.