وَإِنْ كَانَ الثَّالِثَ -وَهُوَ أَنْ يُقَال: إِنَّ مُوسَى -عَلَيهِ السَّلامُ- بَيَّنَ شَرِيعَتَهُ، وَسَكَتَ عَنْ بَيَانِ الدَّوَامِ وَعَدَمِ الدَّوَامِ-: فَهذَا -أَيضًا- بَاطِلٌ؛ لأَنَّ مِثْلَ هذَا التَّكْلِيفِ لَا يُوجِبُ العَمَلَ إلا مَرَّةَ وَاحِدَةً؛ لِمَا بَيَّنَّا: أَنَّ الأَمْرَ لَا يُفِيدُ التَّكْرَارَ، وَلَوْ كَانَ الأَمْرُ كَذلِكَ، لَمَا كَانَت شَرِيعَتُهُ بَاقِيَةً فِي تِلْكَ المُدَّةِ الطَّويلَةِ؛
فَثَبَتَ: أَنَّهُ لَوْ صَحَّ النَّسْخُ، لَكَانَتْ تِلْكَ الشَّرِيعَةُ وَاقِعَةً عَلَى وَاحدٍ مِنْ هذِهِ الوُجُوهِ الثَّلاثَةِ، وَثَبَتَ: أَنَّهَا بِأَسْرِهَا بَاطِلَةٌ؛ فَكَانَ الْقَوْلُ بِحُصُولِ النَّسْخِ بَاطِلًا.
الثَّانِي: أَنَّ الْيَهُودَ -عَلَى كَثْرَتِهِمْ وَتَفَرُّقِهِمْ فِي مَشَارِقِ الأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا- يَنْقُلونَ عَنْ مُوسَى -عَلَيهِ السَّلامُ- أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إِنَّ شَرِيعَتِي بَاقِيَةٌ غَيرُ مَنْسُوخَةٍ، وَنَصَّ فِي "التَّوْرَاةِ" عَلَى قَوْلِهِ: "تَمَسَّكُوا بِالسَّبْتِ مَا دَامَتِ السَّمَواتُ وَالأرْضُ":
فَإِمَّا أَنْ يُكَذَّبَ هذَا النَّقْلُ الْمُتَوَاتِرُ؛ وَهُوَ بَاطِلٌ؛ لأَنَّ الْقَدْحَ فِي الْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ، يُوجِبُ الْقَدْحَ فِي نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ.
وَإِمَّا أَنْ يُعْتَرَفَ بِأَن مُوسَى -عَلَيهِ السَّلامُ- قَال ذلِكَ؛ إِلَّا أَنَّهُ كَذَبَ؛ وَهُوَ بَاطِلٌ؛ بِدَلِيلِ إِجْمَاعِ الْمُسْلِمينَ عَلَى أَنَّهُ كَانَ نَبِيًّا صَادِقَ الْقَوْلِ.
وَإِمَّا أَنْ يُصَدَّقَ بِحُصُولِ هذَا الْخَبَرِ، وَيَصْدُقَ مُوسَى -عَلَيهِ السَّلامُ- فِي هَذَا الْخَبَرِ؛ وَحِينَئِذٍ: يَلْزَمُ مِنْهُ امْتِنَاعُ طَرَيَانِ النَّسْخِ عَلَى شَرْعِهِ.
===
مفسدةً، مرادًا لا مرادًا؛ وهو جَمْعٌ بين النقيضين، أو يَلْزَمُ منه البَدَاءُ، وهو مُحَالٌ؛
فقالوا بِنَاءً على ذلك: النسخ: رَفعُ مِثْلِ الحكمِ بخطابٍ متراخٍ.
وَرُدَّ عليهم: بأنَّ شَرطَ النسخِ التراخي، ولا تناقُضَ مع تَعَدُّدِ الزَّمَانِ، ولا مَانِعَ من كونِ الشيءِ مَصْلَحَة في وقتٍ، مَفْسَدَةً في وقتٍ آخرَ، كأمرِ الحكيمِ بِشُرْبِ الدواءِ في وقتٍ، ونهيهِ عنه في غيرِهِ.
وقولهم: إنَّ المرفوع مثل الحكم.
يقال لهم: الخطابُ الأَوَّلُ لا يخلو: إمَّا أَنْ يتناوَلَ الحكمَ وقتَ الخطابِ الثاني أَوْ لَا:
فإنْ تناوله فالمحذورُ الَّذي فَرَرْتُم منه لازِمٌ لكم، وإن لم يتناوله فلا رَفْعَ.
وأمَّا المُصَنِّفُ: فقدِ اعتقد أنَّ بين الأمرِ والنهي تضادًّا، أو أنَّ رفع أحدهما بالآخر يستلزم إِعدامَ الضِّدِّ بالضِّدِّ، فهو كقول المعتزلة له: إِنَّ البياضَ إذا تام بالمَحَلِّ يَصِحُّ بقاؤُهُ، وانعدامه بطريان ضَدِّ من سوادٍ، أو غيرِهِ.
وقد رَدَّ القاضي عليهم دعوى الإِعدام بالضد بوجهين فاعتمد المُصَنِّفُ في الرَّدِّ على القاضي