للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

احْتَجَّ الْيَهُودُ عَلَى إِنْكَارِ النَّسْخِ؛ بِوَجْهَينِ:

الأَوَّلُ: أَنَّ مُوسَى -عَلَيهِ السَّلامُ- حِينَ نَصَّ عَلَى شَرْعِهِ: فَإِمَّا أَنْ يُقَال: إِنَّهُ نَصَّ عَلَى الدَّوَامِ، أَوْ عَلَى عَدَمِ الدَّوَامِ، أَوْ سَكَتَ عَنِ الْقَيدَينِ:

فَإِنْ كَانَ الأَوَّل: كَانَ حُصُولُ عَدَمِ الدَّوَامِ يُوجِبُ كَذِبَهُ؛ وَهُوَ بَاطِلٌ بِالاتِّفَاقِ.

وَإِنْ كَانَ الثَّانِي: وَجَبَ أَنْ يَكُونَ نَقْلُ هذَا الْقَيدِ جَارِيًا مَجْرَى نَقْلِ أَصْلِ تِلْكَ الشَّرِيعَةِ؛ لأَنَّهُ لَمَّا كَانَ هذَا الْقَيدُ حُكْمًا تَتَوَفَّرُ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ بَيَّنَهُ بَيَانًا ظَاهِرًا-: وَجَبَ أَنْ يُنْقَلَ نَقْلًا مُتَوَاتِرًا؛ إِذْ لَوْ جَازَ فِي مِثْلِ هَذَا أَلَّا يُنْقَل، جَازَ -أَيضًا- أَنْ يُقَال: إِنَّ مُحَمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - بَيَّنَ فِي الصَّلاةِ وَالصَّوْمٍ وَالْحَجِّ: أَنَّها سَتَصِبرُ مَنْسُوخَةً بَعْدَ مِائَةِ سَنَةٍ، أَوْ أَقَلَّ، أَوْ أَكْثَرَ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ؛ وَعَلَى هذَا التَّقْدِيرِ: فَإِنَّهُ تَخْرُجُ جَمِيعُ الشَّرَائِعِ عَنِ الْوُثُوقِ بِهَا.

===

يكون القرَآنُ كُلُّهُ منسوخًا، ولا يبقى لقوله: {نَأْتِ بِخَيرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة ١٠٦]- فَائِدَةٌ.

قوله: "واحتج اليهود بوجهين" وجوابهما واضح.

[قوله]: "قال أكثرُ الفقهاءِ: النسخ عبارة عن انتهاءِ مُدَّةِ الحكم، وهو المختار": صَوَابُهُ أَنْ يُقَال: عِبَارَةٌ عَنْ بَيَانِ انْتِهَاءِ مُدَّةِ الحُكْمِ مَعَ تَرَاخِيهِ. وإِلَّا لَزِمَ أَنْ يكونَ البيانُ بالتعيين بزمان مُتَّصِلٍ نسخًا.

قوله: "وقال القاضي: النسخ رَفْعُ الحُكْمِ بعد ثُبُوتِهِ" لا بُدَّ من تقييدِهِ بخطابٍ مُتَراخٍ؛ احترازًا من الرفع بالعجز والموت.

قوله: "والدليل على صحة الأول أنَّ طَرَيَانَ الطَارِئِ مشروطٌ بزوال الأَوَّلِ ... " إلى آخر المسألة:

نقولُ: قد خَالفَ القاضِيَ جَمَاعَةٌ من الفقهاء، وجُمْلَةُ المعتزلة، وأبو إِسحاقَ الإسفرايينيُّ، والإِمامُ، والمُصَنِّفُ من الأُصولِيِّينَ؛ ولِكُلِّ مُعْتَمَدٌ:

أمَّا الفقهاءُ فقالوا: الحُكْمُ خطابُ الله تعالى، وخطابُهُ كلامُهُ، وكلامه قديمٌ، وَتَعَلُّقُهُ بنفسه: فالرفع: إمَّا أَنْ يرجع إِلى الكلام، أو إِلى تَعَلُّقِهِ، وهما قديمانِ عنده، والقديمُ لا يَقبَلُ الرفعَ.

ورُدَّ عليهم: بأَنَّ ما فَرَضْتُمْ منه يلزمكم فيما صِرْتُم إِليه؛ حيثُ قُلْتُم: إِنه بيانُ أَمَدِ الحكم، وكما أَنَّ القديمَ لا يَقْبَلُ الرَّفْعَ لا يَقْبَلُ التقييدَ بالزمان ولا يعني بقاءَهُ.

وأمَّا المعتزلَةُ فقالوا: الشيءُ إنما يُؤْمَرُ به؛ لِحُسْنِهِ واشتماله على مَصْلَحَةِ، وإنَّمَا يُنْهَى عنه؛ لِقُبْحِهِ، واشتمالِهِ على مَفْسَدَةٍ، ولو أمر بالحكم الواحد ثُمَّ نَهَى عنه، لكان حَسَنًا قبيحًا، مَصْلَحَةً

<<  <  ج: ص:  >  >>