الأَوَّلَ أَوْلَى؛ لأَنَّ تَعَلُّقَ اللَّفْظِ بِالْحُكمِ الذِّهْنِيِّ بِغَيرِ وَاسِطَةٍ، وَتَعَلُّقَهُ بِالأَحْوَالِ الثَّابِتَةِ فِي الْخَارجِ: بِوَاسِطَةِ الأَحْكَامِ الذِّهْنِيَّةِ؛ فَكَانَ الأَوَّلُ أَوْلَى.
===
وعنِ الثاني: أن الكَذِبَ هو الخَبَرُ غيرُ المُطَابِقِ: فتارَةً يكونُ غير مطابق لما في الخارجِ كالإخبارِ عن قيامِهِ، وليس بقائم، لا سيما مع علمه بذلك، وتارَةً يكون لِعَدَمِ مُطَابَقَةِ ما في النَّفْسِ، وإن طابق ما في الخارج؛ كقوله تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: ١]:
كَذَّبَهُمْ؛ لإِخبَارِهِمْ على خلاف ما في نُفُوسِهِمْ، وإن كان الأمر من خارج مطابقًا.
وقد تناقض قولُه في هذه المُقَدَّمَةِ؛ فإنه ادَّعَى أن تَسْميَةَ الحقيقةِ حَقِيقَةٌ مَجَازٌ في رابع درجةٍ؛
قال: فإنَّ أصْلَها مِنْ حَق الشَّيءُ: إذا ثَبَتَ في نَفْسِهِ، ثم اسْتُعْمِلَ في الثابت ذِهْنًا؛ لِمُطَابَقَتِهِ الخَارجَ، ثم في اللَّفْظِ، لمطابقته الصُّوَرَ الذهنيةَ المطابقة للخارِج، ثم في اللفظة المخصوصَةِ المُسَمَّاةِ: بالحقيقة المِقابلةِ للمجاز.
وهو في هذا المَوْضِعِ يَدَّعِي أَن الألفاظَ حَقَائِقُ في الأعيانِ، مَجَازٌ في الصُّوَرِ الذهنية.
وفي مسألة الاستثناءِ ادَّعَى عَكْسَهُ: فما أَسرَعَ ما نَسِيَ الناسُ؟ !
ومِمَّا يُبْطِلُ ما ذكره: أَنَّ أسماءَ الإِشارةِ، والأعلامِ موضوعَةٌ لِلْمُعَيَّنِ الخارِجِيِّ.
وأمَّا النَّكِرَاتُ فهي الموضوعاتُ لشيءٍ في الخارجِ، ولكُلِّ ما شابَهَهُ، بخلاف عَلَمِ الجِنْسِ؛ فإنه موضوع للْمَاهِيَّةِ الذهنية كأسامةَ للأسد.
والذي يُحَقِّقُ، أَنَّ أكثرَ الوضعِ باعتبارِ الخارجِ -أَن الاسمَ إذا كان شائعًا، يَسْتَعْمِلُة الخَاصُّ والعَامُّ، فَيَمْتَنِعُ حَمْلُهُ على معنى لا يُدْرِكُهُ إلَّا الخواصُّ، والماهِيَّاتُ الذهنيةُ لا يُدْرِكُهَا إلَّا الخواصُّ، ، ولَفظُ الإِنْسَانِ والفَرَسِ والبعيرِ وما أشبههما يستعمله الخاصُّ والعامُّ.
والحَقُّ أن الوَضْعَ بحسب الحَاجَةِ، وقد يُحْتَاجُ إلى الإِخبارِ عن أحوالِ الكُلِّيِّ والجُزْئِيِّ معًا، فدعوى اختصاصِ الوَضْعِ الأَوَّلِ بأحدهما تَحَكُّمٌ.
قوله: "والاستثناء المذكور في اللفظ إن صرفناه إلى الحكم، أفاد زوال ذلك الحكم، وإن صرفناه إلى العدم أفاد زوال ذلك العدم"، يعني بأَنَّ النفيَ والإثباتَ في نفس الأمر وَاسِطَةٌ بينهما، فَرَفع كُلَّ واحِدٍ منهما يَستَلزِمُ ثُبُوتَ الآخر.
أَمِّا عند الناظِرِ فبينهما وَاسِطَة، وهي الوَقْفُ عن الحُكمِ، إلَّا أنَّ ما ذكره يَنْتَقِضُ بما سَلَّمَهُ مِنَّ أَن الاستثناءَ من الإثبات نَفْيٌ.
قوله: "إلَّا أَن الأَوَّلَ أولى؛ لأَنَّ تعلُّقَ الحكم بالذِّهْنِيِّ بغيرِ وَاسِطَةٍ، وتعلُّقَهُ بالأحوالِ الثابتة في الخارج بواسطة الأحكام الذِّهنِيَّة؛ فكان أولى".
هذا الترجيحُ مَبنِيٌّ على ما قَرَّرَهُ من أَن الألفاظَ حقيقةٌ في الصُّوَرِ الذِّهْنِيَّةِ، وقَدْ أبطلناهُ، وَبيَّنَّا أنه لا تَصِحٌ دعواه مطلقًا.