أَمَّا إِذَا قُلْنَا: "إِنَّهُ لَا يُفِيدُ الإِثبَاتَ"- فَحَيثُ يَحْصُلُ الإِثبَاتُ، لَمْ تَحْصُل مُخَالفَةُ الدَّلِيلِ" بَلْ يَحْصُلُ حُكْمٌ زَائِدٌ، لَمْ يَدُلَّ اللَّفْظُ الأَوَّلُ عَلَيهِ لَا بالثُّبُوتِ، وَلَا بالانْتِفَاءِ؛ فَكَانَ الثانِي أَوْلَى.
فَإِنْ قَالُوا: "فَعَلَي هذَا التَّقْدِيرِ: وَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُنَا: "لَا إِلهَ إِلَّا الله"- لَا يُفِيدُ الإِقْرَارَ بِثُبُوتِ الإِلهِ! ":
قُلْنَا: الإِقْرَارُ بِثُبُوتِ الإِلهِ مَوْجُودٌ فِي بَدِيهَةِ الْعَقْلِ لِكُلِّ أَحَدٍ؛ كَمَا قَال الله تَعَالي: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: ٢٥]، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هذِهِ الْكَلِمَةِ: نَفْيُ الشُّرَكَاءِ وَالأَنْدَادِ.
===
هذا هو الدليل الذي اعتمد عليه الحَنَفِيَّةُ.
قوله: "أما إذا قلنا: لا يفيد الإثبات فحيث يحصل الإِثبات لم تَحْصُل مخالفَةُ دليلٍ، بل يحصل حكم زائد لم يدل عليه اللفظَ لا بالثبوت، ولا بالانتفاء".
والاعتراضُ عليه من وجهين:
الأَوَّلُ: أَن قوله -عليه الصلاة والسلام-: "لا صَلاةَ إِلَّا بِطُهُورٍ" لا يَحْسُنُ نَفْيُ الصلاةِ لِنَفْي الطهارةِ، إلَّا عند تحقيق سَائِرِ الأركانِ، والشَّرَائِطِ وتَخَلُّفِ الطهارة فقط، وإلَّا فالنفيُ لا يُنْفَى، وَإذا كان كذلك، لَزِمَ من ثُبُوتِ الطهارةِ الصِّحَّةُ، لا مَحَالةَ.
الثَّاني: أَنَّا إنَّمَا ادَّعَينا أن الاستثناءَ من النفي إِثباتٌ، والإثباتُ أَعَمُّ من الإثبات العامِّ.
وإذا قال: "لَا صَلاةَ إلَّا بِطُهُورٍ: اقتض نَفيَ كُلّ صلاةٍ عند عَدَمِ الطهَارَةِ مطلقًا، وقوله: "إلَّا بطهور": يستلْزَمُ من الثُّبُوتِ ولو في صورة، فَيَصْدُقُ أنّ الاستثناءَ من النفي إِثباتٌ.
قوله: "فإن قالوا: على هذا التقدير وجب أن يكون قولنا: لا إله إلَّا الله لا يفيد الإِقرارَ بثبوت الإله"، يعني: أنه إذا لم يقتض إلَّا خُرُوجَه من النفي- لم يكن منفِيًّا، ولا جازمًا بثبوت الإلهِيَّةِ لله تعالى، فلا يكونُ إيمانًا.
وهذا هو الدليلُ الذي اعتمد عليه الفُقَهَاءُ؛ فَإِن تَفريعَهُم في الفقه على ذلك في مَسأَلة: له عندي عَشَرَةٌ إلا تسعة إلَّا ثمانية إلَّا سبعة إلَّا ستة إلّا خمسة إلَّا أربعة إلَّا ثلاثة إلَّا اثنينِ إلَّا واحدًا، فإنه تَلزَمُهُ خَمسَةٌ، وكذلك غَيرُهَا.
قوله في الاعتراض على هذه الحُجَّةِ: "قلنا: الإقرارُ بثبوت الإلهِ موجودٌ في بديهة العَقلِ لِكُلّ أَحَدٍ؛ كما قال الله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان ٢٥].
والمقصودُ من هذه الكلمة نَفيُ الشرِيكِ والأضدادِ".
والاعتراضُ: أنَّا لا نُسَلِّم أَنَّ هذهِ القَضيَّةَ بَدهية في العقلِ لِكُلِّ أَحَدٍ؛ فَإِنَّ عن الكفَّارِ الدَّهرِيَّةِ وقد قالوا: {وَمَا يُهْلِكُنَا إلا الدَّهْرُ}، [الجاثية ٢٤] وَمَن يقولُ بالعِلَّةِ أو الطبيعَةِ يَنفِي الإلَهَ الذي نُثبِتُهُ نَحنُ، فقوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان ٢٥] هنا - في حَقِّ