وساعد الشَّافِعيُّ على التَّخْصِيصِ به، وهو تقديم له من وجه، ومن يرى تقديم الخَبَرِ على القِيَاسِ مُطلَقًا، فَاعْتِقَادُهُ أن جِنْسَ الخَبَرِ مُقَدَّمٌ على القياس، وإن كان الظَّنُّ الحَاصِلُ من القياس أَقوَى؛ تعبدًا بخبر مُعَاذٍ، وسيرة الصَّحَابَةِ، وكيف ينكر مثل هذا والقائلون بالإجْمَاع يثبتون صِحَّته بالنص، ويُقَدِّمُونَهُ في العمل به عليه؟ ! .
قوله:"الحُجَّةُ الخَامِسَةُ: هو أن العَمَلَ بخبر الوَاحِدِ والقياس يفيد رَفْعَ ضَرَرٍ مَظنُونٍ؛ فكان العَمَلُ به وَاجِبًا":
قد تَقَدَّمَ أن القائلين بالعَمَلِ بخبر العدل منهم من يثبته بالحُجَجِ السَّمْعِيَّةِ، والحجج المتقدمة من ذلك، ومنهم من يُثْبِتُهُ بِالحُجَجِ العقلية أيضًا، وهذه الحُجَّةُ على زَعْمِهِ منْهَا.
قوله: "بَيَانُ الأَوَّلِ: الرَّاوي العَدْلُ إذا أَخبَرَ عن رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك الخَبَرِ المُعَيَّنِ، فقد حَصَلَ أنه وجد ذلك الأمر، وعندنا مُقَدِّمَةٌ يقينية؛ وهي أَنَّ مُخَالفَةَ الرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - تُوجبُ العِقَابَ؛ فحينئذ يَحْصُلُ من ذَلِكَ الظَّن ومن ذلك العَلم أَنَّا لو تَرَكْنَا العَمَلَ به، صِرْنَا مُسْتَحِقِّينَ لِلْعِقَاب، وإذا ثَبَتَ هذَا وَجَبَ أن يَجِبَ العَمَلُ به؛ لأَنَّهُ إذا حَصَلَ الظَّنُّ الرَّاجِحُ بالوجوب، والجَوَاز المَرْجُوح، امتَنَعَ العَمَلُ بهما؛ لامتناع حصول النَّقِيضَينِ، وامْتَنَعَ الإِخلالُ بهما؛ لامْتِنَاعِ زَوَالِ النَّقِيضَينِ، وامْتَنَعَ إِيجَابُ تَرْجِيحِ المرجوح [على الراجح]؛ لأنه ضِدُّ المَعْقُولِ؛ فلم يَبقَ إلا إِيجَابُ الرَّاجِحِ؛ وذلك يَقْتَضِي وُجُوبَ العَمَلِ بِخَبَرِ الوَاحِدِ.