قوله: "وَفِيهِ وُجُوهٌ كَثِيرَةٌ" المشهورُ أنها خَمْسَةٌ، سنذكرها، إنْ شاء الله تعالى.
قوله: "وأحسنها أَنْ يقَال: ذِكْرُ الحُكْمِ عَقِيبَ الوَصْفِ المناسِبِ دليلٌ على التعليلِ به؛ والدليلُ عليه: أنَّه إذا قال: "أَكْرِمُوا الجُهَّال، وَأَهِينُوا العُلَمَاءَ" يَسْتَقْبِحُهُ كلُّ أحدٍ، فإما أَنْ يُفِيدَ هذا الكَلامُ أنَّ هذا القائِلَ جَعَلَ الجَهْلَ عِلَّةً للإكْرَامِ، والعِلْم عِلَّةً للإهانةِ، أو لا يفيدَ:
والثاني باطلٌ، وإلَّا لزم ألا يبقى القُبْحُ القبيحَ؛ لأنَّ ثبوت الإِكرامِ مع الجَهْلِ لعلَّةٍ أخرَى جائزٌ":
يعني: بقرابة، أو مكافأةٍ، أو غيرِ ذلك، وكذلك عكْسُهُ؛ لا يقال: وجْهُ القُبْحِ أَنَّهُ أَمْرٌ بإِكرامِ الجاهلِ مع وجُودِ المانِعِ، وكذلك عكْسُهُ، أو أنَّه إثباتُ قاعدةٍ بِمِثَالٍ، فيقالُ: هَبْ أنَّه فُهِمَ منه ها هنا التَّعْلِيلُ، فلِمَ قُلْتُمْ: إِنه يُفِيدُهُ مطلقًا؛ لأنَّا نجِيبُ عن الأَوَّل؛ بأنه لَمَّا أَمْكَنَ إكرامُ الجاهِلِ بأسبابٍ أُخَرَ - وجَبَ ألا يكونَ الجهْلُ مانِعًا؛ دَفْعًا للتعارض، وكذلك عكْسُهُ.
وعن الثاني: أنَّه إذا خصصت العلَّةُ ها هنا، وجَبَ طَرْدُها؛ دَفْعًا لِلاشتراكِ عن هذا الترتيبِ، واشتراطُ المناسَبَةِ في هذا الترتيبِ شَرَطَهُ الإمامُ، والأكثرونَ علَى فَهْمِ التعليلِ من مجرَّد ترتيبِ الْحُكْمِ على المشتَقِّ بدون الْتِفَاتِ إلى المُنَاسَبَةِ، واختيارُ الإِمامِ ها هنا كَاختيارِهِ في مفْهُومِ الصِّفَة؛ فإن غير المناسِبِ في ترتيب الحُكْمِ عليه كاللَّقَبِ، والواقعُ في استعمالِ الشرْعِ: أنَّه إنما ترتَّب الحُكْمُ على المناسِبِ، وهو ظاهِرٌ في استقلالِ المَذْكُورِ مُحْتَمِلٌ للجزئية والاشتراطِ.
النوعُ الثَّاني من الإيماءِ: أن يَذْكُرَ وصفًا مقرونًا بالحكْمِ لا بصيغة التعليل عَلَى وجْهٍ لو لم يكُنْ له أَثَرٌ في الحكْمِ لكان ذِكْرُهُ لَغْوًا؛ كقوله - عليه السلام - "الْهِرَّةُ لَيسَتْ بِنَجِسَةٍ؛ إِنَّهَا مِنَ الطَّوَافِينَ عَلَيكُمْ والطَّوَّافَاتِ"، وكقوله في الخَمْرِ: {فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٩٠) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيطَانُ أَنْ