الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنِ اعْتِقَادُ الْبَقَاءِ رَاجحًا، عَلَى اعْتِقَادِ التَّغْيِيرِ -لَمَا فَهِمْنَا مِنْ كَلامِ أَحَدٍ شَيئًا؛ لأَنَّهُ لَمَّا كَانَ اعْتِقَادُ بَقَاءِ هذِهِ الأَلْفَاظِ عَلَى أَوْضَاعِهَا المُتَقَدِّمَةِ مُسَاويًا لاعْتِقَادِ تَغْيِيرِهَا عَنْ تِلْكَ الأَوْضَاعِ-: بَقِيَ الذِّهْنُ مُتَرَدِّدًا بَينَ الطَّرفَينِ؛ فَوَجَبَ أَلَّا يَحْصُلَ الْفَهْمُ أَلْبَتَّةَ.
الْحُجَّةُ الثَّالِثَة: أَنَّا إِذَا خَرَجْنَا مِنَ الدَّارِ، فَإِنَّ اعْتِقَادَ بَقَائِهَا عَلَى مَا كَانَتْ- يَكُونُ رَاجِحًا عَلَى اعْتِقَادِ تَغْيِيرِهَا عَمَّا كَانَ؛ وَيدُلُّ ذَلِكَ عَلَى كَوْنِ اعْتِقَادِ الْبَقَاءِ رَاجِحًا.
الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّ الْفُقَهَاءَ أَطْبَقُوا عَلَى أَنَّهُ مَتَى حَصَلَ حُكْمٌ، ثُمَّ وَقَعَ الشَّكُّ فِي أَنَّهُ:
===
بالاتفاقِ. وإذا كان غيره، والحصولُ الأَوَّلُ غَيرُ مستلزِمٍ له لَمْ يَكُنْ فعْلُهُ فِعْلَهُ، ولا لازِمَ فعْلِهِ. فإذا كان غيرَهُ، وهو موصوفٌ بالإمْكَانِ وكل مُمْكِنٍ فليس له الوجُودُ مِنْ نَفْسِهِ - فوجودُهُ من غيره؛ فإذن الحصولُ الثَّانِي يفتقرُ إلَى المُؤَثِّر وحصوله في الزمن الثَّانِي هو المُعَبَّرُ عنه في الحادِثِ بالبقاءِ واستمرار الوُجُود؛ ويؤَكِّدُ ذلك أَنَّ كَوْنَ العَالِمِ عالِمًا لَمَّا كَانَ في أَوَّل زَمَن الاتِّصافِ لا يستغني عن عِلَّته، وهي العِلْمُ- كان دوامُهُ كذلِكَ؛ وكذلك سَائِرُ الأحوالِ المعلَّلة بالمَعَانِي كَالسَّوَادِيَّةِ، والبَيَاضِيَّةِ وَغَيرِ ذلك؛ وكذلك دوامُ الحُكْمِ لا يَكْفِي فيه وجُودُ الدليلِ الدَّالُ على أَصْلِ ثبوتِهِ ما لَمْ ينضمَّ إلَيه أمْرٌ يَدُلُّ على الدَّوَامِ إمَّا بِلَفْظٍ, أو معنى كما قَرَّرنا أن مطلق الأمْرِ لا يَدُلُّ على التكرارِ، ولا ينفيه، ولا يوجَدُ الدَّوَامُ إلَا مِنْ قرينةٍ لفظيةٍ أو دوامِ مَعْنى يقتضِي دَوَامَ الحُكْمِ.
وإذا تحَقَّق أن المُمْكِنَ لا يستَغْنِي عن المُؤَثِّر في حال وجودِهِ، ولا حَالِ دوامِهِ- فَقَدْ بَطَلَ ما رَتَّبه عليه من التَّرْجِيحِ.
قولُه: "الحُجَّةُ الثانيَةُ: لَوْ لَمْ يكُنِ اعتقادُ البقاءِ راجِحًا على اعتقادِ التَّغْيِيرِ- لما فهمنا من كلام أحد شيئًا؛ لأنه لَمَّا كَان اعتقادُ بقاءِ هذه الأَلفاظِ على أوضاعِهَا المتقدِّمة مساويًا لاعتقاد تغيرها عن تلْكَ الأوضاعِ في الذهْنِ؛ فيكون متردِّدًا بين الطرفَينِ؛ فوجب أَلَّا يَحْصُلَ الفَهْمُ ألبتة": والاعتراضُ علَيه: لا نُسَلِّمُ أن الحُكْم بالبقاءِ يَسْتَنِدُ إلَى مُجَرَّد أَصْلِ الوضْعِ مع أن الأَصْلَ عدَمُ التغييرِ، بل لدلالة الاستقراء مع حُكْمِ العادة بأنه لو غُيِّر، لَنُقِلَ واشتهر، والعادةُ تَسْتَنِدُ لكثيرٍ من الأحكامِ.
قولُهُ: "الحُجَّةُ الثالِثَةُ: أنا إذا خَرَجْنَا من الدَّارِ، كان اعتقادُ بقائها علَى ما كان رَاجِحًا علَى اعتقادِ تَغَيُّرِها, وذلك يدلُّ على أن اعتقادَ البقاءِ رَاجِحٌ":
الاعتراض: أنَّا نَحْكُمُ بالبقاء فيما تَقْضِي العادَةُ ببقائِهِ، ولا نقضي ببقاءِ ما لم تَقْضِ العادَةُ ببقائه مِنْ رائحةٍ أو حرارةِ ماءٍ أو بَرْدِهِ أو تَأَجُّج نارٍ، وما أشبه ذلك.
قولُهُ: "الحجة الرابعَةُ: أنَّ الفقهاء أطبقوا على أنَّهُ متَى حَصَلَ حُكْمٌ، ثُمَّ وقَعَ الشَّكُّ في أنه هل طرأ المُزِيلُ أوْ لَا؛ فإنه يُرَجَّعُ البَقَاء على ما كان، ولولا أنَّ البقاءَ راجِحٌ علَى جانب التغييرِ، وإلا لَكَانَ هذا تَرْجِيحًا من غير مُرَجِّح":