وقوله:"الأصلُ في الكلامِ الحَقِيقَة".-: يحتمل تفسيرُ الأصلِ بما مضَى من الوجوهِ الثلاثةِ؛ لأنا إِن قُلْنا: إن الأصلَ هو الدليلُ، أو القاعدةُ المستمرة، وقد تقرَّر أن وضعَ الألفاظِ للتفاهُمِ، فتوقف المجاز على قرينة قد تخفَى منحل بذلك، وإن قُلْنَا: إن الأصلَ بمعنى الغَالِبِ- فَلا يخفى أن الحقيقةَ أغْلَب؛ لأن لكلِّ مجازٍ حقيقة، ولا يَنْعَكِسُ.
ومن زعم أَنه يتصور المجاز بدُونِ الحقيقة؛ لأن شَرطَ الحقيقةِ الوضعُ، لا الاستعمال، فقد يُوضَع اللفظُ لمعنى، ولا يستعمَلُ فيه، ثم يُنقَلُ لغيره، لضرب من المناسبَةِ؛ فيكون مجازًا لا حقيقَةَ له:
يقالُ له: هذا تجويز عقلي، والبحثُ في الواقع، ونحن لا نَعلَمُ دلالاتِ الألفاظ إلا باستقراءِ استعمالِها؛ فإِنا لم نعلَم عَينَ الواضِع مِنْ مُوَقف، أو مُصطَلِح، فينقَلَ عنه. وأما الأدلَّة الثلاثة التي ذَكَرها، فظاهِرٌ الاعتراضُ عليها.
وحاصلُ الأول: راجع إلى تعيين الحَقيقَة بعَدَم إرادة ما سِوَاها؛ لأنها لو لم تَكُنْ مُرادَة -لزم: إما ثبوتُ المشرُوطِ بدونِ الشرطِ، أو تغييرُ الوضْع، أو الإِهمَالُ؛ والكل محال.
وحاصلُ الثاني: تعيينُ الحقيقةِ بِحدِّها.
وحاصلُ الثالِثِ: تعيينُ الحقيقةِ بخاصتها؛ وهو السبقُ إِلى الفهمِ، والله أعلَمُ.
وَأعلَم: أنه لا بُد في صِحة المجازِ من مناسبة وارتباطٍ:
فمِن ذلك: إطلاقُ السبَب على المسبَّب؛ كقوله تعالى:{قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيكُمْ لِبَاسًا}[الأعراف: ٢٦]، والمسبَّب على السبب؛ كتسمية المَرَضِ مَؤتًا، والكُل على البَعضِ؛ كإطلاق العام وإرادَةِ الخَاصِّ، والبعض على الكُل؛ كتسميةِ الزنجِي أسوَد، مع بياضِ عينيهِ وأسنانِهِ، أو تسميةِ الشيء بما كان علَيهِ؛ كتسمية الضارِب أمس ضاربًا، أو بما يصيرُ إليه؛ كقوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (٣٠)} [الزمر: ٣٠]، أو بزيادة، كقوله تعالى:{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ}[آل عمران: ١٥٩]، أي: فبرحمة من الله، وَ:{لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}[الشورى: ١١]؛ على رأْي من زعم أن الكافَ زائدةٌ أو بالنقصان؛ كقوله تعالى:{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ}[يوسف: ٨٢].