للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

===

ومن هذا يعلم أن جعل النداء من أقسام الطلب لدلالته على طلب الإقبال لزوما تأمل.

واعلم أن الحروف التى يطلب بها الإقبال النائبة مناب أدعو خمسة- منها: أيا وهيا، وهما موضوعان لنداء البعيد، وقد ينزل غير البعيد وهو الحاضر منزلة البعيد لكونه نائما أو ساهيا حقيقة، فيجعل كل واحد من النوم والسهو بمنزلة البعد فى إعلاء الصوت أو لتتريل المنادى منزلة ذى غفلة لعظم الأمر المدعو له حتى كأن المنادى غافل عنه مقصر لم يف بما هو حقه من السعى والاجتهاد الكلى فيستعملان له فتقول مثلا: هيا فلان تهيأ للحرب عند حضوره، ومنها أى والهمزة موضوعان لنداء القريب، وقد ينزل البعيد منزلة القريب ويستعملان فيه تنبيها على أنه حاضر فى القلب لا يغيب عنه أصلا حتى صار كالمشهود الحاضر كقوله:

أسكان نعمان الأراك تيقّنوا ... بأنّكم فى ربع قلبى سكّان (١)

ومنها: يا، واختلف فيها فقال ابن الحاجب: إنها حقيقة فى القريب والبعيد لاستعمالها فيهما على السواء ودعوى المجاز فى أحدهما خلاف الأصل، وقال الزمخشرى:

إنها حقيقة فى البعيد ولا تستعمل فى القريب إلا مجازا لتتريله منزلة البعيد إما لاستبعاد الداعى نفسه عن مرتبة المنادى أى: تصور نفسه فى مكان بعيد عن تلك الحضرة كقولنا: يا الله مع أنه أقرب إلينا من حبل الوريد أو للتنبيه على عظم الأمر المدعو إليه وعلو شأنه حتى كأن المنادى مقصر فى أمره غافل عنه مع شدة حرصه على الامتثال نحو: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ (٢)، أو للحرص على إقبال المنادى أى: الرغبة والرضا بذلك، فصار إقباله كالبعيد؛ لأن النفس إذا اشتد حرصها على الشىء صارت كل ساعة قبل وقوعه فى غاية البعد، فتقول: يا غلام بادر بالماء فأنا عطشان، ونحو: يا مُوسى أَقْبِلْ، أو للتنبيه على بلادة المنادى فكأنه بعيد من التنبيه لا يسمع نحو: تنبيه يأيها الغافل واسمع، أو لانحطاط شأنه، فكأنه بعيد عن مجلس الحضور نحو: من أنت يا هذا


(١) البيت بلا نسبة فى المطول ص ٤٣٠.
(٢) المائدة: ٦٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>