للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كما فى قوله تعالى: وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً (١). (وأدخل الأعناق فى السير) لأن السرعة والبطء فى سير الإبل يظهران غالبا فى الأعناق، ...

===

فلو كان فى الأباطح محل خال من الإبل لصدق عليه أنه غير سائر لعدم اشتماله على ما يسير فيه

(قوله: واشتعل الرأس شيبا) أى: انتشر شيب الرأس وظهر ظهورا تامّا، فأسند الاشتعال الذى هو وصف للشعر الحالّ فى الرأس إلى محلّه وهو الرأس إشعارا بأن ذلك الحالّ وهو الشعر ملأ المحلّ من أجل أن وصف الحالّ انتقل للمحلّ وصار وصفا له، فكل جزء من الرأس إنما وصف بالاشتعال لاشتعال ما فيه، فلو كان جزء منها خاليا من الشعر لصدق عليه أنه غير مشتعل لعدم اشتماله على المشتعل

(قوله: وأدخل الأعناق فى السير) أى: أراد بإدخالها فى السير جرّها بباء الملابسة المقتضية لملابسة الفعل لها وأنها سائرة؛ لأن مرجع الملابسة إلى الإسناد، وحينئذ فيكون السيل مسندا للأعناق تقديرا، وذلك الإسناد مجاز عقلى، وحينئذ ففى الكلام مجازان عقليان: لفظى وهو إسناد السيل إلى الأباطح، وتقديرى وهو إسناده إلى الأعناق، فالبيت مشتمل على ثلاث مجازات أحدها: مجاز بالاستعارة، والآخران مجازان عقليان، فلما أن أضاف إلى الاستعارة هذين المجازين صارت الاستعارة غريبة

(قوله: لأن السرعة والبطء .. إلخ) علّة لمحذوف أى: وإنما أدخل الأعناق فى السير وأسنده لها تقديرا؛ لأن سرعة السير وبطأه يظهران غالبا فيها فهى سبب فى فهم سرعة السير وبطئه، فلما كانت سببا فى فهم ذلك وإدراكه صارت كأنها سبب فى وجود السير، وحينئذ فإسناد السير تقديرا للأعناق من باب إسناد الشىء إلى ما هو كالسبب فيه، والحاصل: أن الشاعر استعار سيل الماء لسير الإبل فى المحلّ الذى فيه دقيق الحصى استعارة مبتذلة لكثرة استعمالها، ثم أضاف إليها ما أوجب غرابتها وهو تجوّز آخر، وذلك بأن أسند السيلان الذى هو وصف للإبل فى الأصل إلى محلّه من باب إسناد ما للحالّ إلى المحلّ إشعارا بكثرتها وأدخل الأعناق فى السير، حيث قال: وسالت بأعناق المطى الأباطح أى: وسالت الأباطح ملتبسة بأعناق المطى، فقد تضمن ذلك الكلام كون الأعناق سائلة؛ لأن الأعناق تظهر فيها سرعة السير وبطئه وبقية الأعضاء


(١) مريم: ٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>