للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[والثالث]- اختلف أهل الحق فيما بينهم:

قال بعضهم: إن على الحق، الذي هو عند الله معين، دليلاً قطعيًا (١)، يجب على المكلف طلبه باجتهاده، لكن فيه نوع خفاء. فإن أخطأ فيه، يكون معذورًا، ويثاب أيضًا، لصحة قصده طلب الحق.

وقال بعضهم: عليه دليل من حيث الغالب والظاهر، لا دليل قطعي. والإثم في الخطأ الثابت بناء على الدليل القطعي، حتى قال المريسي (٢) وغيره، ممن قال إن الحق في المجتهدات واحد، وعليه دليل قطعي: إنه يأثم بذلك.

ولكن الصحيح عند أهل السنة: أنه لا إثم عليه, ويكون معذوراً، بل يكون له ثواب بقصد إصابة الحق على ما نذكر.

وقال عامة المعتزلة، وأكثر الأشعرية: إن (٣) كل مجتهد مصيب في الشرعيات، وليس فيها حق واحد معين عند الله تعالى يكلف المجتهدين طلبه. بل في موضع الاجتهاد حقوق. فكل مجتهد أدى اجتهاده إلى شيء، يكون صواباً في حقه عند الله تعالى، لا في حق صاحبه، ويكلف كل مجتهد بالاجتهاد بغالب الظن، ويكون ثبوت الصواب والحقيقة (٤) متعلق بوجود ظنه فيه الصواب غالبًا، في حق نفسه لا في حق صاحبه.

وقال بعض المعتزلة: ليس الحقوق على السواء، بل يكون الواحد من ذلك أصوب وأحق - حتى لو فرضنا أن الله تعالى ينص على الحكم في هذه الحادثة، لكان ينص عليه. وهذا هو المطلوب. فمن وجده فهو الأحق. ومن لم يجده، فيكون ما أدى إليه اجتهاده فهو حق أيضًا.

وقد روي عن الشافعي رحمه الله هذا القول، واعتمد عليه حذاق المعتزلة.


(١) في الأصل: "معيناً، دليل قطعي".
(٢) بشر المريسي: تقدمت ترجمته في الهامش ٥ ص ١٩٩. وفي الأصل كذا: "المريشي".
(٣) في الأصل: "على أن".
(٤) قال الجرجاني في تعريفاته: حقية الحكم مطابقته لواقع أو مطابقة الواقع إياه. ويقابله الباطل.