ظل العباقرة من أعضاء الجماعات اليهودية يساهمون في بناء الحضارة الأوربية باعتبارهم أوربيين علمانيين أولاً وأخيراً، أي أن يهودية العبقري لم تكن العنصر الأساسي في إسهامه. وقد زادت هذه المساهمة بازدياد انتشار القيم الليبرالية ثم الثورية في الغرب والشرق، إذ أن هذه القيم فتحت المجال أمام أعضاء الجماعات اليهودية.
ونحن لا نُنكر أثر البُعد اليهودي في تكوين العبقري اليهودي، فأثر القبَّالاه اللوريانية واضح تماماً على تفكير إسبينوزا وفرويد وجاك دريدا فيلسوف التفكيكية. كما نرى أن للمدرسة التفكيكية (في النقد والفلسفة) علاقة قوية بمدارس التفسير الدينية اليهودية، وأن اليهودية بوصفها تركيباً جيولوجياً تحوي داخلها عناصر كثيرة متناقضة (بعضها عبثي وبعضها عدمي أو غنوصي) تتيح للعبقري اليهودي استعداداً كامناً (أكثر من غيره) لاكتشاف مثل هذه التيارات في المجتمع والتعبير عنها بطريقة مباشرة. كما أن البُعد الحلولي الكموني القوي في اليهودية ولَّد استعداداً كامناً قوياً لدى أعضاء الجماعات اليهودية لتَقبُّل المنظومة العلمانية (وهي منظومة حلولية كمونية) . ولكن يجب أن نشير أيضاً إلى أن البُعد اليهودي ذاته هو نتاج تفاعل اليهود مع ما حولهم من حضارات، فالغنوصية هي حركة سادت الشرق الأدنى القديم وتأثرت بها اليهودية. كما أن العبقري اليهودي قد يكون لديه استعداد كامن لاكتشاف شيء ما، لكن هذا الشيء سيظل جزءاً من تشكيل حضاري غير يهودي، بمعنى أن الحركيات النهائية هي حركيات الحضارة التي يعيش فيها اليهودي. فمهما كان علم فرويد مثلاً بتراث القبَّالاه، لا يمكن تَخيُّل أن بوسعه التوصل إلى نظرياته وهو في اليمن (التي يعرف حاخاماتها القبَّالاه اللوريانية بطريقة تفوق فرويد وحاخامات أوربا في عصره) . ففرويد هو نتاج مجتمع فيينا في أواخر القرن التاسع عشر بكل ما كان يحويه من إبداع وانحلال وتركيب وتَخثُّر.