ومن منظور التحديث، يمكننا أن نقول إن هويتين يهوديتين أساسيتين ظهرتا في التشكيل الحضاري الغربي في القرن التاسع عشر، أولاهما، الهوية اليهودية في مجتمعات غرب أوربا ووسطها، في إنجلترا وفرنسا وإيطاليا، وفي ألمانيا بدرجة أقل، ثم في الولايات المتحدة، وهي مجتمعات تتسم بأنها لم تكن تضم أعداداً كبيرة من أعضاء الجماعات وبأن عملية التحديث نجحت فيها إلى حدٍّ كبير، وتم إعتاق أعضاء الجماعات وإعطاؤهم حقوقهم السياسية والمدنية، كما تم دمجهم في المجتمع اقتصادياً وثقافياً، حيث أصبح الاندماج هو المثل الأعلى. وقد نشأت، في هذا الإطار الاندماجي، اليهودية الإصلاحية التي فصلت الهوية الدينية عن الهوية القومية أو الإثنية تماماً، وعرَّفت الهوية اليهودية تعريفاً دينياً خالصاً. وقد أنجزت اليهودية الأرثوذكسية أمراً مماثلاً بأن جعلت هوية اليهودي مسألة دينية أساساً، وجعلت تحقيق الجانب القومي من العقيدة اليهودية مرتبطاً بالإرادة الإلهية، وهو كما تَقدَّم الحل التقليدي الذي طرحته اليهودية الحاخامية للإشكالية المشيحانية. وقد اندمج يهود هذه المجتمعات اندماجاً كاملاً، وكانوا يتحدثون الفرنسية في فرنسا والإنجليزية في كلٍّ من إنجلترا والولايات المتحدة. والهوية اليهودية في ألمانيا، وفي كثير من بلاد وسط أوربا، تنتمي إلى النمط نفسه رغم اختلاف الظروف، ولا يمكن فهم هوية الجماعات اليهودية في هذه البلاد إلا في السياق الحضاري لكلٍّ منها. وبالتدريج تراجع البُعد الديني مع تَصاعُد معدلات العلمنة فأعيد تعريف الهوية اليهودية على أساس إثني علماني ولكن البُعد اليهودي (الإثني والديني) ظل هامشياً للغاية. ولذلك، تأخذ التطلعات القومية اليهودية ليهود الغرب، إذا وُجدت، شكل حنين ديني للعودة إلى صهيون (الروحية) إن كان اليهود من المتدينين. أما إذا كانوا من العلمانيين، فإنها تأخذ شكل حماس عاطفي لهويتهم الإثنية، لا يترجم نفسه أبداً إلى هجرة