وإذا كانت العقلانية المادية قد أفرزت فكر حركة الاستنارة والوضعية المنطقية والكل المادي المتجاوز للإنسان، فقد أفرزت اللاعقلانية المادية: النيتشوية والوجودية والفينومينولوجية وهايدجر وما بعد الحداثة. والانتقال من التحديث إلى الحداثة وما بعد الحداثة هو الانتقال من العقلانية المادية التي تربط بين التجريب والعقلانية (في مرحلة المادية القديمة ومرحلة الثنائية الصلبة والواحدية الموضوعية المادية) إلى اللاعقلانية المادية التي تفصل بينهما، فيتم التجريب دون ضابط ودون إطار (في مرحلة المادية الجديدة والسيولة الشاملة) . وتسود الآن في مجال العلوم نزعة تجريبية محضة ترفض الكليات العقلية) إنسانية كانت أم مادية) وتلتصق تماماً بالمادة وحركتها وعالم الحواس.
ومع هذا يمكن القول بأن العقلانية المادية كثيراً ما تتعايش مع اللاعقلانية المادية وترتبط بها. فالوضعية العلمية المنطقية تعبير عن العقلانية المادية حيث لا يؤمن الإنسان إلا بالتجريب والأرقام، ولكنها في الوقت نفسه تعبير عن اللاعقلانية المادية، فهي لا تشغل بالها بالكليات أو المنطلقات الفلسفية. وقد أشرنا إلى أن النازية، كما يراها بعض المؤرخين، هي قمة العقلانية المادية، ونحن نتفق معهم في هذا، ونضيف أن هذا لا يمنع أن تكون قمة اللاعقلانية المادية أيضاً، فهي تعبير عن تَبلور نزعة تجريبية محضة ترفض الكليات الإنسانية والعقلية وأي شكل من أشكال الميتافيزيقا وتلتصق تماماً بحركة المادة وعالم الحواس، وتُمجِّد الإرادة الفردية على حساب أية مفاهيم إنسانية كلية. ولعل الفلسفة العلمانية الشاملة الأساسية، أي الداروينية الاجتماعية، هي تعبير عن هذا التعايش والترابط بين العقلانية واللاعقلانية المادية.