٢ ـ ثم نأتي إلى مشكلة الفكر. يدَّعي الماديون أن الفكر صورة من صور المادة أو أثر من آثارها (فالعقل صفحة بيضاء تتراكم عليها المعطيات الحسية وتتحول إلى أفكار كلية بطريقة آلية) . وهي مقولة قد تبدو معقولة ولكنها تخلق من المشاكل أكثر مما تحل. والسؤال هو: لماذا يأخذ الفكر هذه الصورة بالذات؟ ولماذا تختلف أفكار شخص عن أفكار شخص آخر يعيش في نفس الظروف؟ وهل الأفكار عصارات وأنزيمات تتحرك أم أنها شيء آخر؟ وما علاقة المؤثر المادي بالاستجابة الفكرية أو العاطفية؟ ولنأخذ فكرة مثل «السببية» . المعطيات الحسية المادية غير مترابطة ولا علاقة لها بأية كليات، ومع هذا يُدرك العقل الواقع لا كوقائع متناثرة وإنما كجزئيات تنضوي تحت كلٍّ متكامل، ولا يمكن أن يتم الإدراك إلا بهذه الطريقة، ولذا نجد أن الماديين (في عصر ما بعد الحداثة) ينكرون تماماً فكرة الكل، ويعلن نيتشه موت الإله الذي يعني في الواقع نهاية الكل. وهجوم الماديين والطبيعيين على الكل أمر مُتوقَّع، ففكرة الكل تُذكِّرنا بمعجزة الإنسان الذي يتجاوز النظام الطبيعي وحركة الأنزيمات والذرات والأرقام، ومن ثم فإنها تخلق ثنائية فضفاضة تستدعي مرجعية متجاوزة للنظام الطبيعي هي الإله. فالكل يؤكد تجاوز الإنسان، وتجاوز الإنسان يؤكد وجود الإله كمقولة تفسيرية معقولة. ولذا، لابد أن تهاجم هذه الفلسفة فكرة الكل حتى يعود الإنسان إلى الطبيعة ويُستوعَب فيها. وهكذا بدأت المادية بمحاولة تحطيم خرافة الميتافيزيقا، وانتهت بالهجوم على فكرة الحقيقة نفسها.